ظهرت تيارات مختلفة تخالف التوجه الوضعي للمنهج الكمي واختلفت تلك التيارات في قوة المخالفة ونوعيتها، وسنقوم بعرض أهم هذه التصورات التي عارضت الوضعية، والتي يمكن تقسيمها إلى أربعة تصورات، وهي كالتالي:
أولاً: التصور ما بعد الوضعي:
يقر ما بعد الوضعيين بوجود حقيقة منفصلة عن إدراكنا، بمعنى آخر أن الحقيقة توجد في الواقع خارج الذهن لكن يرون أنه لقصور أدوات الإدراك لدى الإنسان فإنه لا يمكن أن يعرف الحقيقة كما هي، بل يستطيع أن يصل إلى صورة تقريبية لها، حيث تخضع دعوى الوصول إلى الحقيقة إلى فحص دقيق لضمان الوصول إلى أقرب إدراك ممكن لها، لكن ليس إدراكا كاملا إليها، فالواقعية النقدية ترى أن الظاهرة التي تدرس في البحث العلمي ليست معاني في عقل العالم فقط، ولكنها تتوافق مع الكائنات أو العمليات الحقيقية التي توجد مستقلة عنا، إلا أن هذا التوافق غير كامل وبه قصور، لذلك فمن الضروري أن تبني منحنى نقديا فيما يتعلق بالملاحظة والاستنتاج، وبناءً على هذا فإن المعرفة مبنية بشكل جزئي وليست صوراً مباشرة للحقيقة.
ثانياً: التصور البنائي:
يفترض التصور البنائي أن الحقيقة مطلقة أو العامة غير مدركة، أي بطبيعتها مستعصية على الإدراك، وأن الحقائق التي تدرك إنما هي منظورات فردية، أو بناء للحقائق، ولذلك فالحقيقة عبارة عن أبنية اجتماعية، أي حقائق نسبية يبنيها الفرد من خلال تفاعله مع مجتمعه، فكل فرد له حقيقته، مع وجود نقاط مشركة بين الأفراد في كل مجتمع، فالفرد يبني نسخته الخاصة به من الحقيقة عن طريق تفاعله مع مجتمعه وبتأثير من ذلك المجتمع، فالحقائق في النهاية إنما هي أبنية اجتماعية
ثالثاً: التصور النقدي/ النسوي:
يرى البعض أن تصور اتباع النظرية النقدية واتباع الحركة النسوية توجها واحداً أو متماثلاً، على الأقل فيما يتعلق بموضوع البحث النوعي، حيث يرى النقديون والنسويون أن العالم يتكون من هياكل اجتماعية أخذت أوضاعها على مر التاريخ، ولها تأثير حقيقي على فرص الحياة للأفراد، وهذه الهياكل نشعر بها وندركها على أنها حقائق، والفعل الاجتماعي الذي ينتج من هذا الشعور والإدراك، يقود إلى معاملة تمييزية للأفراد مبنية عادة على العرق والجنس والطبقة الاجتماعية في غياب التأمل والتفكير العميق، فإن هذه الهياكل تكون مقيدة ومعيقة، ولها قدرة من الهيمنة على فكرنا وسلوكنا، كما أن هناك فرضيات يتقبلها الباحث النقدي عادةً وتميزه في الآتي:
- كل الأفكار بشكل أساسي مشكلة بواسطة علاقات السلطة والتي كونت اجتماعياً وتاريخياً.
- لا يمكن أبداً فصل الحقائق عن القيم، أو نزعها من المضامين الأيديولوجية.
- العلاقة بين المفهوم والشيء وبين الدال والمدلول ليست ثابتة أو دائمة، فهي دائماً في حالة تشكل (متأثرة بالعلاقات الاجتماعية للإنتاج الرأسمالي والاستهلاك).
- اللغة لها دور رئيسي في تكوين الذاتية مثل (الوعي الشعوري واللاشعوري).
- تستأثر مجموعة معينة في أي مجتمع بحقوق أكثر من الآخرين ومع تفاوت أسباب هذا التميز، فإن الظلم الذي يميز المجتمعات المعاصرة يعاد إنتاجه بشكل قوي عندما يتقبل المستضعفون ذلك الوضع الاجتماعي، بوصفه طبيعياً أو ضرورياً أو حتمياً لا يمكن تفاديه.
- للظلم صور شتى والتركيز على صورة واحدة على حساب الأخرى، (مثل ظلم الطبقة الاجتماعية أو العرقية) يغفل غالباً الترابط بين تلك الصور.
- التيار الغائب في الممارسات البحثية بشكل عام، وغالباً بشكل غير واعٍ ينعكس في إعادة إنتاج ظلم النظم الطبقية والعرقية والجنسية.
ويرى البعض أنه يمكن فهم البحث النقدي من خلال النظر إليه، في سياق تمكين الأفراد فهذا النوع من البحث يجب أن يكون مرتبطاً بمحاولة لمواجهة الظلم الذي يقع عادةً في المجتمعات، وبذلك يكون البحث العلمي عملاً تحويلياً.
رابعاً: التصور ما بعد البنيوي:
تعريف ما بعد البنيوية مشكل لأنها من حيث المبدأ ضد التصورات العامة، لذلك فكثير من الباحثين يعرفها ليس بذكر ما فيها، بل بذكر ما ليس فيها، بحيث تتميز عن غيرها، فمن أسسها تفويض كل التصورات الأخرى، وبشكل عام فهي تقدم تحدياً أساسياً للنسخ الحداثية من العلوم الاجتماعية، ويقسم البعض البحث في التصور ما بعد البنيوي إلى ثلاثة أقسام وهي (التفكيكية، والنسبية، والبحث القائم على البيانات).
ولكي يتمكن الباحثين من توضح الفرق بين هذه التصورات المختلفة في سياق البحث النوعي يقوم الباحثين بالتفريق بينها على ثلاثة مستويات أساسية وهي كالتالي:
- المستوى الأنطولوجي، ويقصد به طبيعة الوجود ما هي طبيعة الحقيقة؟.
- المستوى الأبستمولوجيا، ويقصد به طبيعة المعرفة ما هي العلاقة بين الموجود والعارف؟.
- المستوي المنهجي، أي كيف يمكن أن تكتسب المعرفة؟.