تتعدد الخطوات التي يقوم عليها المنهج التاريخي في البحث العلمي، كما تتسم هذه الخطوات بالتشابك والتداخل والترابط والتكامل، وتساهم بشكل كبير في بناء المنهج التاريخي وهي كالآتي:
أولاً: اختيار موضوع البحث، وتحديد المشكلة العلمية التاريخية:
تبدأ أي دراسة تاريخية باختيار موضوع معين أو مشكلة معينة، ويتطلب موضوع البحث مجهود كبير، فإن اختيار موضوع معين للبحث التاريخي يتحدد عادة في ضوء بعض التساؤلات والاستفسارات التاريخية ومنها:
1-أين وقعت الأحداث التي سيدرسها الباحث؟
2- من هم الأشخاص الذين دارت حولهم أو اتصلت بهم الأحداث والوقائع؟
3- متى وقعت هذه الأحداث ولماذا؟
4- ما أنواع النشاط الإنساني الذي يدور حولها الباحث؟
ويمكن استخدام تلك الأسئلة كمعايير موضوع للبحث التاريخي والتي تساهم في تحريك عملية البحث، لاستخراج فرضيات علمية تكوِّن إجابات صحيحة حول تلك التساؤلات، كما يجب أن يتضمن أفكاراً هامة حتى يكون له دلالة ومغزى، ويتطلب المنهج التاريخي طرق البحث العلمي في بحث المشكلات، وهو بالضرورة يحتاج إلي معايير الدقة المنهجية التي تميز بين أنماط البحوث في المجالات العلمية، وهذا يحتاج إلي التعرف على موضوع البحث، وتحديد المشكلة، وصياغة الفروض، وجمع البيانات، وتنظيمها وتحقيقها وإثبات صدقها، وتحليلها والتوصل إلي نتائج تثبت صحة تلك الفروض، لذلك يشترط في عملية اختيار موضوع البحث وتحديد المشكلة أن يراعي الباحث عدة نقاط وهي:
1- يجب أن تكون المشكلة معبرة عن العلاقة بين متحولين أو أكثر.
2- يجب أن تصاغ المشكلة صياغة جيدة وواضحة وكاملة ودقيقة ومحددة.
3- يجب أن تصاغ بطريقة جيدة تتناسب مع البحث العلمي التجريبي والخبري.
ثانياً: جمع وحصر المادة والوثائق التاريخية:
يحرص الباحث على جمع أفضل مادة تاريخية ترتبط بموضوع دراسته أو المشكلة في بحثه، ولذلك فهو يحرص على الإلمام بأعمال الإنسان المتعددة والمتنوعة التي تدل على الأحداث الماضية، ويختار من بينها ما هو مناسب لموضوع أو مشكلة بحثه، ونظرا لأن جمع المادة التاريخية يكون صعبا بالنسبة للباحث العلمي لأنه لا يعيش الزمن أو العمر الذي يدرسه، فكان يجب عليه أن يجمع مادته من مصادر مختلفة، حيث يقسم المؤرخون المصادر التاريخية إلى نوعين رئيسين المصادر الأولية، والمصادر الثانوية.
1- المصادر الأولية:
نظرا لأن الباحث العلمي لا يستطيع ملاحظة الأحداث الماضية ملاحظة مباشرة، فكان لزاما عليه أن يبحث عن المصادر الأولية للحصول على أدق الشواهد والنتائج، وتشمل المصادر الأولية أشخاص يشهد لهم بالكفاية في الرواية والتاريخ ممن شهدوا الحوادث الماضية، أو بمعنى أدق عاشوا هذه الأحداث وعلى وعي تام بها، وتنقسم المصادر الأولية إلي فرعين هما الآثار والوثائق.
- الآثار:
توجد أنواع متعددة ومتنوعة من الآثار والمخلفات التاريخية التي تتصل بشخص معين أو جماعة معينة أو عصر من العصور التاريخية، وهي تعبر عن بقايا حضارات أو أحداث معينة قامت أو حدثت في الماضي، ومن أمثلة الآثار المطبوعات مثل الكتب والشهادات والسجلات والعقود، وكذلك تشكل آثار المخطوطات مثل التلاميذ ورسومهم والتمارين التي يقومون بها الإجابة عليها، وقد عثر على أوراق البردي التي توضح هذه الآثار عن النشاط التدريبي التعليمي في العصور المصرية القديمة.
- الوثائق:
وتكون الوثائق عبارة عن أحداث كُتبت بواسطة أشخاص اشتركوا فعلا في واقعة معينة أو على الأقل شهدوا عليها، وتأخذ الوثائق أشكال متعددة ومن أهمها ما يلي:
1- السجلات الشفهية: ومن أمثلتها الأساطير والحكم، والقصص والخرافات الشائعة، والحكايات الشعبية.
2- السجلات المكتوبة: ومن أمثلتها ما يلي:
أ- السجلات الشخصية: مثل كتابة اليوميات والسير الذاتية والخطابات.
ب- السجلات الرسمية: مثل القوانين واللوائح والعهود والمواثيق والمعاهدات والمعلومات الصادرة عن الهيئات والمؤسسات.
ج- السجلات المصورة: ومنها الرسوم والنحت والصور الفوتوغرافية وصور الأفلام بأنواعها المختلفة.
د- السجلات الصوتية: ومن أمثلتها جميع التسجيلات الصوتية من خطب سياسة أو أحاديث.
ه-الوثائق التربوية: وتشمل الكتب والأدوات والوسائل العلمية، ووسائل العقاب والامتحانات في الماضي.
2-المصادر الثانوية:
وتشمل هذه المصادر ما يرويه شخص معين من معلومات عن شخص آخر شاهد فعلا واقعة معينة في الماضي أو شارك فيها، ويشهد أيضاً له بكفاية روايته، وعلى الرغم من المصادر الثانوية عادة ما تكون محدودة القيمة بالنسبة إلى المصادر الأولية، حيث إن احتمال الأخطاء في المصادر الثانوية أكبر نتيجة انتقال البيانات من شخص إلى آخر، وتكرار هذا النقل عن الآخرين أكثر من مرة إلا أن المصدر الثانوي له وظيفته في تزويد الباحث بمعلومات عن الظروف والآراء التي قيلت حول المصدر الأول.
ثالثاً: تقييم مصادر المعلومات ونقد المادة التاريخية:
ومن العمليات الأساسية في المنهج التاريخي نقد المادة التاريخية التي يجمعها الباحث، سواء استخدم في الحصول عليه كمصادر أولية أو مصادر ثانوية، والغرض من هذا النقد التأكد من صدق المصدر وصحة المادة الموجودة في المصدر أو التي ينقلها، ومن العبارات المألوفة في الدراسات التاريخية أن الشك هو بداية الحكمة، وهذا يتطلب من الباحث أن يفترض مقدما أن المعلومات التي يجمعها تحتاج إلي نقد وإثبات لصحتها، وتزداد الحاجة إلي نقد المادة التاريخية كلما باعد الزمن بين واقعة معينة ووقت تسجيلها، احتمالا للتحيز في المادة المسجلة وعلى الأخص في المصادر الثانوية، وينقسم النقد التاريخي إلي نوعين رئيسين هما النقد الداخلي والنقد الخارجي، ويمكن أن تتم عملية النقد الداخلي للمادة التاريخية من خلال طرح عدة أسئلة وهي كالآتي:
1- هل المؤلف صاحب الوثيقة حجة في الميدان؟
2- هل يملك المؤلف المهارات والقدرات والمعارف اللازمة، لكي تُمكنه من ملاحظة الحوادث التاريخية وتسجيلها؟
3- هل حالة المؤلف الصحية وسلامة حواسه وقدراته العقلية تمكنه من الملاحظة العلمية الدقيقة والكاملة للحوادث التاريخية وتسجيلها بصورة سليمة؟
4- هل ما كتبه المؤلف كان بناء على ملاحظته المباشرة، أم نقلاً عن شهادات آخرين، أو اقتباساً من مصادر أخرى؟
5- هل اتجاهات وشخصية المؤلف تؤثر في موضوع التأليف، من خلال ملاحظته وتقريره للحوادث التاريخية.
قواعد تحليل ونقد المصادر والوثائق التاريخية:
1- عدم قراءة الوثائق التاريخية القديمة والتي تضمن مفاهيم وأفكار أزمنة لاحقة ومتأخرة.
2-عدم التسرع في الحكم على المؤلف بأنه يجهل أحداثاً معينة، لأنه لم يذكرها، ولا يعتبر عدم ذكرها في الوثائق دليل على عدم وقوعها.
3-عدم المبالغة في تقدير قيمة المصدر التاريخي، بل أعطية القيمة العلمية الحقيقية.
4- عدم الاكتفاء بمصدر واحد فقط ولو كان يتضمن أدلة قاطعة ويتمتع بالمصداقية، بل حاول أن يكون هناك أكثر من مصدر يؤيد معلوماته.
5-إن الأخطاء المتماثلة في مصدرين أو أكثر، تدل على نقلها من بعضها البعض، أو نقلها من مصدر واحد مشترك.
6-الوقائع التي يتفق عليها الشهود والأكثر كفاية وحجة، تعتبر مقبولة.
7-يجب تأييد وتدعيم الشهادات والأدلة الرسمية الشفوية والكتابية بالشهادات والأدلة غير الرسمية كلما أمن ذلك.
8-يجب الاعتراف بنسبية الوثيقة التاريخية، فقد تكون دليلاً قوياً وكافياً في نقطة معينة، ولا تعتبر كذلك في نقط أو نقاط أخرى.
رابعاً: فرض الفروض والتحقق من صحتها وتفسيرها:
بعد جمع البيانات وإخضاعها لعمليات النقد الخارجي والداخلي لإثبات صحتها ومعناها في الوضوح، تبقى مشكلة تركيب المادة، إذ ينبغي أن يجمع الباحث الأجزاء الصغيرة من المادة معا لكي تشكل نموذجا، بمعنى أن يكون بمثابة الدليل الذي تجمع لديه ثم يستخدم هذا في اختبار الفرض الذي وضعه من قبل، وهذه المرحلة من البحث تتطلب من الباحث قدراً كبيراً من الخيال وسعة الأفق، كما أنها تتطلب اتباع طريقة التفكير المنطقي بدقة، وينبغي عند بناء الفروض أو التفسيرات الممكنة ألا يقع الباحث في أن الواقعة أو الحدث التاريخي لا يمكن أن يفسره سبب واحد تفسيرا شاملاً مرضياً، وإنما هناك عدة أسباب لتفسيره.
أهم مراحل عملية التحقق والتفسير:
1-تكوين صورة فكرية واضحة: وذلك لجميع الحقائق التي تحصل عليها الباحث، والموضوع ككل الذي تدور حوله الحقائق التاريخية المجمعة.
2-تنظيم المعلومات والحقائق: من خلال تصنيفها وترتيبها على أساس معايير ومقاييس منطقية، بحيث تتجمع لدى الباحث جميع المعلومات المتشابهة والمتجانسة في مجموعات وفئات مختلفة.
3- ملء الثغرات التي تظهر بعد عملية التوصيف، والتصنيف، والترتيب للمعلومات: وذلك في إطار وهيكل منظم ومرتب وتتم هذه العملية عن طريق المحاكمة، والتي يمكن أن تكون محاكمة تركيبية سلبية عن طريق إسقاط الحادث الناقص في الوثائق التاريخية، وقد تكون المحاكمة إيجابية عن طريق استنتاج حقيقة أو حقائق تاريخية لم تشر إليها الوثائق التاريخية.
4- ربط الحقائق التاريخية بواسطة علاقات حتمية وسببية قائمة بينها: يقصد بها عملية التسبيب والتعليل التاريخي، وهي تعتبر عملية البحث عن الأسباب التاريخية والتعليلات المختلفة، فعملية التركيب والبناء لا تتحقق بمجرد جمع المعلومات والحقائق من الوثائق التاريخية فقط، بل هي عملية البحث والكشف والتفسير والتعليل عن أسباب الحوادث التاريخية وعلاقتها الحتمية والسببية التاريخية للوقائع والحوادث التاريخية.