كان لقريش العديد من مظاهر الجاهلية والصفات التي تعكس مدى جهلهم ونذكر من أهمها:
أولًا: جاهلية قريش وأكل الحرام:
الكسب الحرام كان شائعًا في جاهليِّي قريش بصفة رهيبة، وقد سبق معنا قريبا قصَّة أحد أشرافهم أبو جهل مع الرجل الإراشيِّ، فأكل مال النَّاس بالباطل كان طريقة شائعة عندهم لتنمية المال، ناهيك عن السَّرقة، والنَّهْب، والاستثمار في دور الدَّعارة، والمتاجرة بالإماء طوعًا وكرهًا في البِغَاء، وسيأتي ذلك في موضعه.
وههنا ثلاثة أسئلة:
- السُّؤال الأوَّل: ما الدَّليل الشَّاهد بصدق ما ذُكِر؟
- والثَّاني: هل ما سبق تعديده من وسائل الكسب الحرام؛ أمر غير مرضيٍّ عندهم؟
وجوابهما في قصَّة بناء قريش للكعبة، فإنَّهم أجمعوا حينها على كلمة واحدة: «لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إلَّا طَيِّبًا، لَا تُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بِغَيٍّ، وَلَا بَيْعَ رِبًا، وَلَا مُظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ».
- والسُّؤال الثَّالث: كيف تدلُّ القصَّة على تعاطيهم للكسب الحرام؟
وجوابه: أن قريشًا بأشرافها ومن معهم، بأموالهم وتجاراتهم، وما جمعوا من مال طيِّب، قصرت بهم النَّفقة، ولم يقدروا على إكمال بناء الكعبة، ممَّا يُنْبِئُك بحجم تعاطيهم للمال الحرام.
ثانيًا: جاهلية قريش الفاحشة وإساءة الأدب:
المُتأمِّل في حال الجاهليَّة من هذا الوجه تلوح له حقيقة سيِّئة، عنوانها الفسوق، وقلَّة الأدب، وبذاءة القول وشناعة الفعل؛ حال سوء تُظِلُّ ذلك المجتمع المظلم المريض، ونحن إذ نوجِّه القلم نحو هذا الفجِّ الدَّنيء؛ لا بدَّ أن نأخذ منه بقدر ضرورة البيانِ؛ بيانِ ظلام الجاهليَّة، الذي يظهر لك فيما بعد أثر نور الإسلام، وكيف نَصَع وهَّاجًا في طهارة مجتمع الصَّحابة المهتدي بهداية الإيمان والإحسان.
مظاهر إساءة الأدب في المجتمع الجاهلي:
الفحش في الكلام، واضحًا في شعر الغزل الماجن، وهو كلام جنسيٌّ بذيء، وكثيرًا ما كان يُتوسَّل به إلى فضح النِّساء ومراودتهنَّ للحرام، ولا يُقال إنَّه أمرٌ معزول بين أفراد، فإن الشِّعر كان الجهاز الإعلاميَّ المعتمد.
مظاهر تفشي الزنى في المجتمع الجاهلي:
الزِّنى أمر سائغ؛ لا يُستحيى من الحديث عنه، بل الدَّعارة سلوك اجتماعيُّ رسميٌّ في العرف الجاهليِّ، وليس هذا ادعاءً فارغًا من دليل، إنَّما هو حقيقة تاريخيَّة ترويها لنا الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق؛ أمُّنا عائشة ل في الحديث الصَّحيح؛ الذي يصوِّر حال تلك الجاهليَّة الدَّنيئة:
عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ج أَخْبَرَتْهُ: «أَنَّ النِّكَاحَ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ اليَوْمَ: يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا، وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ. وَنِكَاحٌ آخَرُ: يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ العَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى المَرْأَةِ، كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، تَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ، فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ، وَنِكَاحُ الرَّابِعِ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الكَثِيرُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى المَرْأَةِ، لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ البَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا لَهُمُ القَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فَالْتَاطَ بِهِ، وَدُعِيَ ابْنَهُ، لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ «فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ج بِالحَقِّ، هَدَمَ نِكَاحَ الجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ اليَوْمَ» رواه البخاري (7/15 رقم: 5127) وغيره.
فلا يسع العاقل بعد قراءة هذا الحديث؛ إلَّا أن يقول: إنها الإباحية الجنسية الجاهلية في أدنس مظاهرها.
آيات قرآنية عن تفشي الزنى والكسب منه:
ولم يكن الزِّنى في المجتمع الجاهليِّ مجرَّد شهوة وقضاء وَطَر، بل كان مصدرًا ماليًّا مهمًّا لديهم، بل لدى شرفائهم، وهذا في القرآن الكريم عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ﴾ سورة النور الآية 33.
وسبب نزول هذه الآية هو: أنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ يُقَالُ لَهَا: مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا: أُمَيْمَةُ، فَكانَ يُكْرِهُهُما علَى الزِّنَا، فَشَكَتَا ذلكَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.