عقد البحث العلمي عقد عمل
ولا ريب أن الإنتاج الذهني في كل مجتمعٍ لا يقل أهمية عن العمل اليدوي عموما، وأن الأعمال الذهنية المعرفية يتم التعاقد فيها بنفس الطريقة المتبعة في عقود المهن اليدوية؛ حيث يُقدِّمُ البائع خدماتٍ للمشتري انطلاقا مِن قدرتِه ومهاراتِه.
غير أنا نتساءل إذا كان بإمكاننا -وبناءً على ما تقدم- أن نَقيسَ العقودَ المتعلقة بالإنتاج المعرفي بعقود العمل، أو أن نخضع عقود البحث العلمي لنفس القواعد التي تنطبق على عقود العمل؟. ولكي نفصل في هذا الرأي يمكننا أن نرتب هذا المبحث إلى مطلبين، نشرح المسألة في أولهما، ونقوِّمها في الآخر، وذلك كالتالي:
المطلب رقم 1: شرح مسألة عقود العمل
وردَ في القانوني المدني لدولة العراق تعريف عقد العمل على أنه: "عقد يتعهد به احد طرفيه بان يخصص عمله لخدمة الطرف الأخر ويكون في أدائه تحت توجيهه وأدارته مقابل اجر يتعهد به الطرف الأخر ويكون العامل أجيراً خاصاً (1) . بينما يعرفه قانون العمل العراقي بأنه : اتفاق بين العامل وصاحب العمل ، يلتزم فيه العامل بأداء عمل معين لصاحب العمل تبعاً لتوجيهه وإدارته ويلتزم فيه صاحب العمل بأداء الأجر المتفق عليه للعامل (2) .
ويمكننا -اعتمادا على هذا التعريف- أن نحدد ثلاثة مكونات محورية في عقود العمل، وهي: إنجاز الأمر المُتعاقَدِ عليه، ودفع الثمن الذي التزم به المستفيد للأجير، والصلة بينهما؛ والتي يكون الأجير فيها تابعاً للمستفيد.
على أننا نشير إلى أن إنجاز العمل المتفق عليه لا ينبغي أن يُعدَّ شرطاً ضروريا في تلك المكونات؛ لأن إنجاز المهامِّ التي يطلبها المستفيد يتعلق بمدى إلزامية العقد الذي وقعه الطرفان ((تنفيذ العقد طبقاً لما أشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية)). (3).
وتلتقي عقود البحث العلمي مع عقود العمل في كونها تُولي أهميةً كبيرة للاعتبارات الشخصية التي تخص الأجير، حيث يستند البائع أو المستفيد على خبرة البائع أو الأجير، وحسنِ أدائه (4). هذا مِن جهة، ومِن جهةٍ أخرى فإن عقود البحث العلمي تتفق مع عقد العمل في كونها تتَّسمُ بالمرونة في إنجاز الأعمال؛ حيث يتم إنجازها خلال جدولٍ زمني يطول ويقصر (5)، كما هو الحال في عقد البحث العلمي. وكذلك مِن جهةٍ أخرى نجد عقد البحث العلمي تشترك مع عقد العمل في اشتراط كون السلعة أو الخدمة المتفق عليها واضحةً، موجودةً في الواقع، ويستطيع المشتري أو صاحب العمل الحصول عليها، والاستفادة منها في مزاولة اعماله. ومِن جهة رابعةٍ كذلك فإن القانون المدني العراقي يقضي -في المادة 903 منه أن عقود البحث العلمي بما هي خدمات يتفق عليها بين طرفين أحدهما يستفيد مِن هذه الخدمات وهو رب العمل والثاني يعمل على إنجازها وهو الأجير-تقضي المادة بأن هذا النوع مِن العقود تنسحب عليه أحكام عقد العمل. ومِن جهةٍ خامسة كذلك فإن العقدين يتفقان في نقطةٍ جوهرية جدا، وهي السرية التامة التي يشترطها ربُّ العمل على البائع أو مَقَدِّم الخدمة (6).
غير أن أمراً آخر قد يؤدي إلى الخلط بين عقود البحث العلمي وعقد العمل، إذ أنه في كل منهما يتَّصف العامل بشيءٍ مِن التَّبعية، حيث يتمتع صاحب العمل بسلطة تخول له توجيه العميل وتحديدَ طريقتِه في العمل، وعلى العميل امتثال تلك الأوامر (7)، بينما تتسع المسافة بين صاحب العمل والأجير أكثر في عقود البحث العلمي؛ حيث لصاحب العمل حق التوجيه والمراقبة، وإدارة المشروع، والعميل يتبعه في ذلك، ولكنها ليست تبعيةً كتلك التي مرت بنا، بل إن الباحث أو المؤلف له الحق في الاستقلالية علمياً وفنيا، وليس لصاحب العمل توجيهه في المسائل الفنية (8)، وإنما يتبع له في إدارة المشروع عموما، وفي تنظيم العمل، والظروف التي يراها مناسبة له. وليس شرطاً أن يشرف صاحب العمل على توجيه العميل وإدارته على نحوٍ مباشر، بل يكفي أن تتحقق له إمكانية ذلك، وأن تنتفي الموانع دونه، وإن لم يزاوله بالفعل (9)، وتتفاوت تبعيَّة المؤلف لرب العمل حسب قدرات الأول، وإلمامه بالمسائل الفنية، وحسب نوع المشروع، وأهميته
وفي بعض الأحيان، تتقلص تبعية المؤلف للمستفيد حتى تكاد لا توجد. ويمكننا استقراء تبعية المؤلف للمستفيد من خلال هذه السمات: مثل طبيعة الأجور، ونوع الالتزامات الموجودة، والسُّلطةِ الاقتصادية التي يملكها صاحب العمل (10)، كما أن المؤلف يحتاج الرجوع دائماً إلى صاحب العمل في أي مشاكل تواجهه، فهو بهذا غير مستغنٍ عن صاحبِ العمل، ولا مستقل عنه. وهكذا تختلط عقود البحث العلمي بعقد العمل.
ومن هنا فإن هذا التكييف لا يعود بالنفع على صاحب العمل فحسب(11)، بل له نتائج مفيدة لمقدِّم الخدمة، وهي كالتَّالي:
في حالة قياس عقود البحث العلمي على عقد العمل فإن المؤلف سيكون له الحق الكامل في الأجر ما دام متواجداً، ومؤهَّلاً لِإنجاز العمل(12).
يضمن المشتري أو صاحب العمل كل تجاوز او خطأ يرتكبه المؤلف خلال تنفيذه للمهام الموكَلةِ إليه.
ليس المؤلف مطالبا إلا بالاجتهاد وبذل قصارى جهده لإنجاح العمل، وليس عليه أن يتوصل إلى النتائج المرضية لرب العمل(13)، وهو يستحق الأجر على المستفيد بمجرد تحقُّق بذل الوسع والاجتهاد.
لن يضمنَ المؤلِّفُ الأخطاء والتجاوزات التي تحدث عن غير قصد، والنواقص التي تبقى في العمل دون الانتباه لها(14).
يستفيد المؤلف من الحقوق القانونية التي تكفلها التشريعات لجميع العمال(15).
المطلب الثاني: تقويم فكرة عقد العمل
لا شك أن هذا التكييف الذي يقيس عقود البحث العلمي على عقد العمل سيشكل مزايا مهمة لصالح المؤلف، من حيث إخلاء مسؤوليته من جميع الأخطاء والتجاوزات الخفية التي تحدث خلال إنجاز العمل، والتي تبقى ملازمةً للعمل من دون قصد، ومن حيث أنه ليس مطالبا إلا بالاجتهاد وبذل قصارى جهده لإنجاح المهام الموكلة إليه، وكونه يستحق الأجر بمجرد تحقق ذلك الوسع والاجتهاد، دون أن يكون مسؤولا عن النواقص التي تلازم العمل. غير أن هذا التكييف يواجه مشاكل في التطبيق، وهي كالتَّالي:
النقطة المحورية في مسألة قياس عقود البحث العلمي على عقد العمل هي تبعية المؤلف للمستفيد، حيث إن للأخير حق المراقبة والإدارة والإشراف على العمل، ومن هنا يقعُ الخلط بين العقدين، والحال أن المؤلف في عقود البحث العلمي يخضع للمستفيد اقتصاديا(16)، ولكنه يستقل عنه في الأمور الفنية، ويعتمد فقط على خبرته المعرفية، ومهاراته العلمية، فالمؤسسة البحثية التي يعمل المؤلف لصالحها تتعاقد معه على أساس نظامٍ داخلي أو قانوني معين، على عكس الأجير في عقد العمل، فإنه يتبع لصاحب العمل تبعيةً كاملة، وليس له استقلال قانوني، فهو بهذا يعمل لصالح المستفيد وليس لصالحه، وليسَ له عائد من ذلك إلا الأجر المتفق عليه.
على أننا حين نقول إن المؤلف مستقل عن صاحب العمل، فإن ذلك لا ينفي إخلاء مسؤوليته من الأخطاء والتجاوزات، ثم إن مسؤولية رب العمل عن هذا التقصير -وإن كانت موجودة في عقود البحث العلمي- ليست مثل التي نجدها في عقد العمل؛ فالصلة بين الطرفين في عقد العمل صلة تبعية، بينما هي في عقود البحث العلمي صلة تقوم على الوفاق والتعاقد بين الطرفين.
ومن جهة أخرى يختلف عقد البحث العلمي عن عقد العمل في أن الأجير -في عقد العمل- لا يملك أي حق في الاحتفاظ باكتشافاتِه واختراعاتِه(17)، بينما المؤلف -في حالة البحث العلمي- له الحق في الاحتفاظ باكتشافاتِه العلمية، وبراءات الاختراع التي يتوصل إليها خلال العمل؛ وخاصة إذا أنتج المؤلف خلال تنفيذه للعمل مُنتَجاً لم يتم الاتفاق عليه بين الطرفين(18)، وكانَ خارجاً عن المهام التي يضطلع بها، فإن له الحق في الاحتفاظ به، ومن هنا أمكننا القول إن المؤلف في عقود البحث العلمي يتمتع بحقوق ملكية أعماله العلمية والأدبية(19).
للمؤلف حق استغلال جهدِه الفكري، إليه تؤول حقوق الملكية في النهاية، وعليه فليس لرب العمل أو المستفيد أن يستأثر بحقوق الملك، واستغلال المنجز الفكري للمؤلف، وليس على الأخير التنازل عن حقه هذا(20)، بينما -على العكس من ذلك- نجد العامل في عقد العمل يتخلى عن حقوق ملكيتِه كلِّها للمستفيد.
ليس الأجير في عقد العمل مطالبا إلا ببذل الجهد في تنفيذ المهام المسندة إليه(21)، بينما يضمن المؤلف تحقيق النتائج المرجوُّة، والمنصوص عليها مِن قبل رب العمل.
إن اعتماد هذا التَّكييف الذي يقيسُ عقود البحث العلمي على عقد العمل بشكلٍ عامٍّ مِن شأنه أن يجرَّ إلى مُعطَياتٍ لا تستجيب لمقتضيات عقود البحث العلمي الذي ينبني بشكلٍ كبيرٍ على خبرة المرءِ، وكفاءَته العلمية، لا تستجيب تلك المعطيات لهذا العقد مِن حيث الحقوق المكفولة للمؤلف(22)، ومِن حيث إلغاء العقد المتفق عليه بين الطرفين(23).
تمثل الأجرة مُكوِّناً مهماً في عقد العمل، ويحدد القانون قاعدةً دقيقةً تُراعي فيه حقوق الأجير(24)، وبالتالي يُمكن وصف عقد العمل بأنه مِن عقودِ المعاوضة(25)، وكذلك عقود البحث العلمي يُفتَرَضُ فيها أن يكونَ العمل مقابل تعويضٍ معين، وبالتالي فهي أيضا داخل عقود المعاوضة ما لم يطرأ عليها مُحَدِّدٌ آخر ينفي ذلك، على أن نظام الأجور في عقود البحث العلمي ليس مثلَه في عقد العمل.
إذا قرر الطرفان فسخَ العقد قبل الانتهاء من تنفيذ العمل، فإن الأجير -في عقد العمل- له حقٌّ في الأجر؛ بحسب ما أنجزَه مِن المهام(26)، بينما لا يَضمَن ربُّ العمل أجرَ المؤلِّف إذا لم ينفذ المهام الموكَلةَ إليه.
وهذا الأمر ذاتُه هو ما يلتزم به المقاول أصلا في عقد المقاولة؛ حيث إنه لا حق له في اقتضاء أي أجرٍ ما لم ينفذ المهام المتفق عليها. فهل نستطيع الآن تكييف الصلة بين المؤلف وصاحب العمل أو المستفيد في عقود البحث العلمي على أنها عقد مقاولة؟. وهو ما سنتطرَّقُ له في المقال القادم.
1.نص المادة (900/1) من القانون المدني العراقي .
2.نص المادة (29) من قانون العمل العراقي النافذ رقم (71) لسنة 1987م .
3.نص المادة (150/1) من القانون المدني العراقي .
4.انظر نص المادة (923) من القانون المدني العراقي . والتي تقرر انتهاء عقد العمل بموت العامل مما يؤكد أهمية الاعتبار الشخصي في عقد العمل .
5. د. شاب توما منصور ، شرح قانون العمل ، ط3، بغداد ، 1968 ، ص340.
6. انظر المادة (909) الفقرة (1/هـ) من القانون المدني العراقي .
7. انظر أستاذنا د. عدنان العابد ود. يوسف الياس ، قانون العمل ، ط2، بغداد ، 1989، ص227.
8. انظر:- المصدر السابق، ص342.
9. أنظر في هذا المعنى:- د.محمد لبيب شنب، مصدر سابق ، ص30.
10. باعتباره الطرف القوي في عقد العمل وتستمد هذه القوة من الالتزامات الإضافية التي تلقى على عاتق الباحث إذا اعتبرناه عاملاً(أنظر المواد من(909) إلى(912) من القانون المدني العراقي والتي تحدد التزامات العامل.
11. أنظر نص المادة(914) من القانون المدني العراقي.
12.أنظر نص المادة (909/1) من القانون المدني العراقي.
13. كاستعمال معلومات مزيفة أو مسروقة من دون مراعاة الأمانة العلمية وأصول البحث العلمي. أو تؤدي إلى نتائج مخالفة للنظام العام والآداب.
14. خصوصاً تلك المتعلقة بإنهاء عقد العمل. أنظر نص المادة (915) وما بعدها من القانون المدني العراقي.
15. إذ أن للمعلومات قيمة اقتصادية.
16. انظر قانون بيت الحكمة رقم(11) لسنة 1995م. القانون منشور في جريدة الوقائع العراقية العدد(3577) الصادر بتأريخ 21/8/1995م.
17. انظر نص المادة 912 من القانون المدني العراقي .في استحواذ رب العمل على براءة الاختراع واكتشافات العمل أثناء العمل .
18. انظر نص المادة الثانية من قانون حماية حق المؤلف العراقي ، في تعريف المصنفات و تعدادها على وجه الحصر ، بأنها كل تعبير يظهر كتابته أو صوتاً أو رسماً أو تصويراً أو حركةً . وللتوسع انظر :- د. عصمت عبد المجيد بكر ود. صبري محمد خاطر ، الحماية القانونية للملكية الفكرية ، ط1 ،بيت الحكمة ،بغداد ،2001 ، ص40 وما بعدها.
19. المصدر السابق ، ص23-24. وانظر نواف كنعان ، حق المؤلف ، ط2 ،عمان ،1992 ، ص274.
20. انظر :- الأستاذ السنهوري ، الوسيط ، ج8 ، المصدر السابق ، من 191 ص329 . أستاذنا زهير البشير ، الملكية الأدبية والفنية (حق المؤلف) ، الموصل ،1989، ص49-50. وانظر د. عصمت عبد المجيد بكر و د. صبري محمد خاطر ، مصدر سابق ، ص23.
21. انظر نص المادة (9.9/1) من القانون المدني العراقي .
22. إذ لا يتمتع الباحث بالحماية المقررة للعامل بمقتضى القواعد الخاصة بتنظيم العمل كتحديد ساعات العمل والعطلة الأسبوعية .
23. تختلف القواعد المتعلقة بانتهاء العقد اختلافاً جوهرياً في عقد العمل عنها في عقد البحث العلمي . فلا ينتهي عقد العمل بوفاة رب العمل ، مالم تكن شخصيته قد رُوعِيتْ في العقد . ولكن ينفسخ العقد بموت العامل (م923) من القانون المدني العراقي ) . بينما ينتهي عقد البحث العلمي بموت الباحث وموت المستفيد . ولا يمكن إنهاء عقد العمل ذي المدة المجددة قبل انتهاء الأجل المتفق عليه للعمل موضوع العقد وعلى القاضي في بعض الحالات في عقد العمل إلغاء فصل العامل والأمر بإعادته إلى عمله . ( انظر :- د. محمود جمال الدين زكي، مشكلات المسؤولية المدنية، ج1، القاهرة، 1978، ص448) . ولا شيء من ذلك كله في عقد البحث العلمي .
-
- انظر :- د. محمود جمال الدين زكي، المصدر السابق، ص448.
- انظر د. عدنان العابد ود. يوسف الياس، مصدر سابق، ص225.
- انظر نص م( 918) من القانون المدني العراقي .