هل تساءلت يوماً عن الطريقة التي يفكر بها الأطفال، أو عما يحكم رؤيتهم للأشياء ويكّون صورة العالم في أذهانهم؟! لقد سعى العديد من علماء النفس والأطباء النفسيين إلى الكشف عن إجابة لهذه الأسئلة..
- كيف يفكر الطفل؟
- كيف يصنع العلاقات مع من حوله؟
- كيف يتصور العالم؟
- كيف يتطور ذكاؤه وأدواته المعرفية؟
والمختص يعلم أن ثمت العديد من النظريات التي سعت إلى تفسير النمو المعرفي والنمو النفسي للطفل، ولعل أشهر نظريات النمو المعرفي: نظرية إيريك إيركسون التي سبق تناولها في مقال سابق، ونظرية بياجيه في النمو المعرفي، وكذلك نظرية فرويد ونظرية كولببرج، وغيرها من نظريات النمو المعرفي والنمو النفسي التي قسمت مرحلة الطفولة إلى مراحل عمرية مختلفة، تتميز كل واحدة منها بعدد من الخصائص، وسنتناول في هذا المقال واحدة من أهم نظريات النمو المعرفي والنمو النفسي، وأوسعهم أثراً في المجالات التربوية والنفسية والسلوكية، وهي: نظرية النمو المعرفي لبياجيه.
ولا شك أن نظرية النمو المعرفي لبياجيه تعتبر من أهم نظريات النمو المعرفي، وأننا ما زلنا نجني ثمار تطبيقاتها إلى الآن، حيث قدمت تفسيراً شاملاً للذكاء البشري وكيفية طوره منذ الطفولة، بداية من التفكير المادي المعتمد على الصور، وانتهاءً بالتفكير المنطقي المجرد، لذا سنحاول في هذا المقال تناول نظرية النمو المعرفي لبياجيه من حيث نشأتها، ومراحل النمو المعرفي عند بياجيه.
نشأة نظرية النمو المعرفي لبياجيه
قبل الشروع في الحديث عن نظرية النمو المعرفي لبياجيه، وأسس النظرية ومراحلها.. لا بد أولاً من التمهيد للنظرية بتصور البيئة التي نشأت فيها هذه النظرية، فإن نظرية النمو المعرفي قد تأثرت ولا شك بأفكار جان بياجيه والأدوات والطرق التي استخدمها في ملاحظة سلوك الأطفال قبل أن يؤسس نظريته. وقد ولد بياجيه في أواخر القرن التاسع عشر، فعاش طفولة هادئة بدت عليه فيه أمارات النضج الباكر؛ حيث نشر أول بحث علمي له ولم يجاوز الثانية عشرة من عمره، الأمر الذي رشحه للعمل مساعداً لعالم النفس الفرنسي الشهير ألفريد بينيه والطبيب النفسي تيودور سيمون الذين استطاعا وضع أول اختبار لقياس الذكاء، فقد كان شغوفاً بملاحظة إجابات الأطفال على أسئلة اختبار الذكاء، للوصول إلى المواطن التي تميز البالغين عن الأطفال، كما أنه طالما كان يقضي أوقاته في ملاحظة سلوك ابنته وابن أخيه، مما أكسبه خبرة كبيرة استخدمها لاحقاً
تأسيس نظرية النمو المعرفي للطفل.
لاحظ بياجيه أن ثمت اختلافات أصيلة بين ذكاء الأطفال وذكاء البالغين، فكانت هذه الملاحظة هي الفتيل الذي أشعل عقل بياجيه ليبدأ التفكير في النظرية. ففي القرن التاسع عشر، كان الاعتقاد الشائع أن الأطفال أقل ذكاءً من البالغين، إذ أنهم يمتلكون نسخاً مصغرة من أدمغة البالغين. ومن خلال خبراته وملاحظاته.. أدرك بياجيه خطأ هذا الاعتقاد، ورأى أن طرائق التفكير عند الأطفال تختلف أصلا عن طرائق التفكير لدى البالغين، فكان أول من قال أن ثمت فرقاً نوعياً بين تفكير الأطفال وتفكير البالغين، وليس الأمر متعلقاً بحجم الذكاء كما كان الاعتقاد يومئذ. كما رأى أن ذكاء الطفل يتطور وينمو عبر عدة مراحل، وقد لاحظها وسجل خصائصها أثناء الملاحظات السريرية، ليتمكن في النهاية من سبك نظريته ووصف مراحل النمو المعرفي التي يمر بها الأطفال.
مراحل النمو المعرفي عند بياجيه
بعد سنوات من الرصد والملاحظة صاغ بياجيه نظرية التطور المعرفي، حيث لاحظ أن الطفل في رحلة تطوره المعرفي يمر بأربع مراحل، هي:
- المرحلة الحسية الحركية: وتبدأ من الولادة وتمتد إلى بلوغ الطفل سنتين.
- المرحلة ما قبل العملية: وتبدأ من عمر السنتين إلى بلوغ الطفل سبع سنوات.
- المرحلة العملية المادية: وتبدأ من سن السابعة إلى سن الحادية عشرة.
- المرحلة العملية المجردة: وتبدأ من الثانية عشرة سنة فما فوق.
هذه المراحل الأربعة تمثل أربع محطات يمر الطفل عبرها في رحلته إلى تحقيق النضج الفكري والتطور المعرفي، وفي الجدول التالي نتناول مراحل النمو المعرفي والنمو العقلي عند بياجيه وخصائص كل مرحلة بشيء من التفصيل.
مراحل النمو المعرفي
|
التغيرات والخصائص
|
المرحلة الحسية الحركية
(من الولادة وحتى عمر السنتين)
|
- سميت بهذا الاسم لأن الطفل يتعرف فيها على العالم عبر حركته وإحساسه، ومن خلال أدواته الأساسية مثل: النظر والاستماع والإمساك والمص.
- يدرك الطفل أنه كائن منفصل عن الناس والأشياء من حوله، وأن حركاته يمكن أن تحدث شيئاً في العالم من حوله.
- تتميز هذه المرحلة بأنها قصيرة نسبياً، ومع ذلك فهي تشهد حدوث تغيرات عظيمة في النمو المعرفي للطفل، ففي هذه المرحلة يتعلم الطفل اللغة والحركة والزحف والمشي.
- يدرك الطفل أن الأشخاص والأشياء يستمرون في الوجود بالرغم من عدم دوام رؤيتهم.
|
المرحلة ما قبل العملية
(من عمر السنتين إلى بلوغ الطفل سبع سنوات)
|
- في هذه المرحلة يفكر الأطفال بطريقة رمزية، ويتعلمون عبر الصور التي تساعدهم في بناء تصوراتهم الذهنية عن الأشياء.
- تشهد هذه المرحلة تطور اللغة والفكر عند الطفل، لكن بالرغم من ذلك يواجه الطفل صعوبة في الفهم المنطقي.
- يميل الأطفال في هذه المرحلة إلى الألعاب، كما يتميز الطفل في هذه المرحلة بالأنانية.
|
المرحلة العملية المادية
(من سن السابعة إلى سن الحادية عشرة)
|
- تعد هذه المرحلة من أهم مراحل التطور العقلي للطفل حسب نظرية بياجيه، حيث تشهد تطور آليات التفكير المنطقي لدى الطفل.
- يمكن للطفل في هذه المرحلة أن يستقرأ الأحداث والأشياء المادية لاستنتاج مبدأ عام على طريقة المنطق الاستقرائي.
- يقل شعور الأنانية لدى الطفل ويبدأ الطفل في النظر إلى الآخرين نظرة مختلفة عن المرحلة السابقة.
|
المرحلة العملية المجردة
(من سن الثانية عشرة)
|
- في هذه المرحلة يدخل الطفل مرحلة المراهقة، وتتطور لديه آليات التفكير المجرد، الأمر الذي يعد علامة على النمو المعرفي والنضج العقلي.
- يميل المراهق إلى التفكير النظري في القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفلسفية.
- تتطور لدى المراهقين القدرة على الاستنباط، عبر تطبيق المبادئ الكلية على الجزئيات.
|
وأخيراً فقد أردنا أن نجعل هذا المقال مدخلاً إلى نظرية النمو المعرفي لبياجيه، من خلال الإحاطة بالظروف التي نشأت فيها النظرية ومراحل النمو المعرفي للطفل كما رآها بياجيه، وسنتبع هذا المقال برديفه نتناول فيه أسس نظرية النمو المعرفي لبياجيه التي أقام عليها نظريته، والعوامل المؤثرة على النمو المعرفي عند بياجيه، وتطبيقات النظرية في الأوساط التعليمية، وأخيراً نقد نظرية النمو المعرفي لبياجيه، ليكون المقالان بمثابة مدخل وملخص لنظرية النمو المعرفي عند بياجيه.
مراجع يمكن الرجوع إليها:
- الأشول، عادل عز الدين (2012) علم نفس النمو من الجنين إلى الشيخوخة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
- العارضة، محمد عبد الله (2013) النمو المعرفي لطفل ما قبل المدرسة نظرياته وتطبيقاته، دار الفكر ناشرون وموزعون.
- بياجيه، جان (2004) الإبستمولوجيا التكوينية، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع.
- بياجيه، جان (2002) سيكولوجيا الذكاء، دار عويدات للنشر والتوزيع.