بعد ما أشرنا في مقال سابق إلى مذاهب الفلاسفة في رؤيتهم لطبيعة المعرفة، ننتقل إلى الجزء الثاني من الكلام على نظرية المعرفة، وهو الكلام على مصادر المعرفة، والوسائل التي نستقي منها المعارف الإنسانية، ولا تخفى أهمية هذا الباب، ومنه تظهر أهمية نظرية المعرفة، إذ أن مصادر المعرفة وفرت مجالاً خصباً لاختلاف الفلاسفة، فمنهم من رأى أن العقل وحده هو الذي يستقل بإدراك المعارف، وهم العقليون وعلى رأسهم الفيلسوف الفرنسي الشهير (رينيه ديكارت)، ومنهم من رأى أن العقل من أكبر المصادر التي قد يتطرق إليها الغلط، فجعل الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة، وهم التجريبيون وعلى رأس هؤلاء الفيلسوف الاسكتلندي (ديفيد هيوم)، ومنهم من جمع بين العقل والحس، وجعل كليهما من مصادر المعرفة وهم النقديون وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني الشهير (إيمانويل كانت)، وفيما يلي سنبين كل مذهب بإيجاز.
أما أصحاب المذهب الأول وهم العقليون وعلى رأسهم (ديكارت) الذي عبر في كتابه (مقال في المنهج) عن رفضه الحس كمصدر من مصادر المعرفة، وقال بأن الحس يتخلله الخطأ وأن الحواس كثيراً ما تنخدع، فحتى صاحب البصر السليم إذا سار في الصحراء يرى السراب فيحسبه ماء، وهذا سليم البصر فكيف بغيره؟! مما حدا بالعقليين إلى رفض الحس كمصدر للمعرفة، لأن الحس إذا كان خاطئاً فإن المعرفة خاطئة ولا شك، وقد اعتمد (ديكارت) العقل مصدراً من مصادر المعرفة، فصدق العقل ضروري ومحتوم، فالعقل يدرك بالضرورة أن (1+1=2) وأن النقيضين لا يجتمعان في وقت واحد، وأن كل سبب لا بد له من مسبب، وغيرها من المبادئ العقلية الضرورية التي هي محل إجماع العقلاء.
وفيما يخص نظرية المعرفة وبالتحديد الإجابة عن سؤال مصادر المعرفة.. ذهب التجريبيون إلى رفض العقل، واعتبار الحس المصدر الوحيد للمعرفة السليمة، وكان على رأس أولئك التجريبيين الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك) والفيلسوف الاسكتلندي (ديفيد هيوم)، ويشير الدكتور زكي نجيب محمود إلى سبب رفضهم للعقل وإيمانهم بالحس والتجربة فيقول: " وإنما نقول ذلك؛ لأن العقل بعد أن يتلقى ما يتلقاه من انطباعات حسيَّة لا يبقيها على حالها أفكارًا بينها وبين تلك الانطباعات تطابق، بل يتناولها بالتركيب حتى لتتكوَّن فيه صور مركبة لا تشبه في تركيبها هذا شيئًا مما تلقيناه من الحواس"
وأخيراً جاء رأي النقديين ويمثلهم الفيلسوف الألماني الشهير (إيمانويل كانت) الذي بسط نظريته وفصلها بوضوح في كتابه الشهير (نقد العقل المحض)، حيث رأى (كانت) أن المعرفة لا يمكن أن توجد عبر إحدى الطريقين فقط، أعني طريق الحس أو العقل، وإنما تنتج المعرفة الصحيحة من اجتماع المصدرين معاً: الحس والمعرفة، ولا شك أن هذا الرأي هو أصح الآراء، فقد أنتج لنا (كانت) مذهباً وسيطاً بين غلو الواقعية التجريبية وغلو المثالية العقلية؛ إذ أنه من ناحية اعترف بالإحساسات التي نتلقاها من الخارج كمادة أولية للمعارف، ومن ناحية أخرى أقر بفاعلية العقل واشتراكه في معالجة هذه الإحساسات في المدركات الحسية.