طور غاري بيكر (1930-2014)، في مسيرة مهنية لامعة وغزيرة الإنتاج، ما أطلق عليه لاحقًا "النهج الاقتصادي للسلوك البشري". كان أحد أهم محاور هذا الجهد هو ذلك الذي ركز على رأس المال البشري، وشغل جزءًا كبيرًا من حياته المهنية، خاصة في سنواته الأولى. سنركز في هذه المقال على نظرية بيكر عن رأس المال البشري. سوف نحاول استكشاف نشأة النظرية وأهم محاورها وتطبيقاتها.
نشأة نظرية رأس المال البشري
إن فكرة أن التعليم يمكن أن يوفر فوائد، بما في ذلك الفوائد الاقتصادية، هي بالتأكيد فكرة قديمة. ومع ذلك، فإن استخدام الاستعارات مثل رأس المال البشري أو الثروة البشرية لتصوير الآثار الاقتصادية للتعليم والتدريب بدأ فقط في التطور إلى برنامج بحث متماسك بحلول أواخر الخمسينيات. اعتبر معظم الاقتصاديين قبل الحرب العالمية الثانية تقليديًا أن فوائد التعليم تتركز على المستوى السياسي والأخلاقي بدلاً من المستوى الاقتصادي، وكانوا يميلون إلى تجاهل دور التعليم في تحليلاتهم.
في سنوات ما بعد الحرب، ظهرت هناك علامات على زيادة الإلمام برأس المال البشري والقيمة الاقتصادية للتعليم بين الاقتصاديين الأكاديميين. وتعود أصول نظرية رأس المال البشري إلى نظرية التطور الاقتصادي الكلي، ففي الخمسينات تضمنت العوامل الأساسية للإنتاج الأرض والعمل ورأس المال المادي والإدارة، ومع ذلك في الستينات واجه علماء الاقتصاد صعوبة كبيرة في تفسير نمو اقتصاد الولايات المتحدة بناء على العوامل المذكورة أعلاه الخاصة بالإنتاج، ثم جاءت أفكار بيكر وزملائه المتعلقة بالفرضية السائدة التي تشير إلى أن نمو رأس المال المادي يسهم في النجاح الاقتصادي، وتقوم الفرضية الأساسية لنظرية رأس المال البشري على أن القدرات التعليمية للأشخاص قيمة قابلة للمقارنة مع الموارد الأخرى المتضمنة في الخدمات المؤسسية.
في 1964، نشر جاري بيكر كتابه بعنوان رأس المال البشري، وقدّم فيه صورة شاملة لما أصبح يعرف بنظرية رأس المال البشري. وعرّف بيكر رأس المال البشري بأنه "الأنشطة التي تؤثر على الدخل النقدي والنفسي في المستقبل من خلال زيادة الموارد لدى الناس" (بيكر ،1994)، وأشكالها الرئيسية كانت التعليم والتدريب أثناء العمل.
ومنذ أن تم تقديم المفهوم الأصلي بواسطة جاري بيكر. تطورت نظرية برأس المال البشري بشكل كبير.
أهمية نظرية رأس المال البشري
تشرح نظرية رأس المال البشري نمط أرباح حياة الأفراد وبشكل عام، يكون نمط أرباح الأفراد من النوع الذي يبدأ منخفضًا (عندما يكون الفرد صغيرًا) ويزداد مع تقدم العمر (بيكر 1975، ص 43)، على الرغم من أن الأرباح تميل إلى الانخفاض إلى حد ما مع اقتراب الأفراد من التقاعد. تنص نظرية رأس المال البشري على أن الأرباح تبدأ منخفضة عندما يكون الشباب صغارًا لأن الشباب هم أكثر عرضة للاستثمار في رأس المال البشري وسيتعين عليهم التخلي عن الأرباح أثناء استثمارهم. من المرجح أن يستثمر الشباب في رأس المال البشري أكثر من كبار السن لأن لديهم حياة مهنية متبقية أطول للاستفادة من استثماراتهم وأموالهم الضائعة - وبالتالي فإن تكاليف الاستثمار ستكون أقل. ثم تزداد الأرباح بسرعة مع تقدم العمر مع اكتساب مهارات جديدة. أخيرًا، مع تقدم العمال في السن، تنقص وتيرة استثمار رأس المال البشري وبالتالي تتباطأ الإنتاجية، مما يؤدي إلى تباطؤ نمو الأرباح. في نهاية الحياة العملية للفرد، قد تكون المهارات قد انخفضت، نتيجة لنقص الاستثمار المستمر في رأس المال البشري والشيخوخة. يساهم هذا الاستهلاك في تراجع متوسط الدخل بالقرب من سن التقاعد (Ehrenberg & Smith , 2016).
تكمن أهمية نظرية رأس المال البشري في المؤسسات في أن الشخص الذي يستثمر في التعليم والتدريب يزداد لديه المستوى المهاري ويكون أكثر إنتاجية من الأشخاص ذوي المستوى المهاري الأقل لذا يستطيع تحقيق المكاسب العليا نتيجة الاستثمار في رأس المال البشري، حيث يشير بيكر إلى أن " التعليم يزيد المكاسب والإنتاجية بشكل أساسي بواسطة توفير الدور الهام في تنمية العاملين الحاليين، وتدعم نظرية رأس المال البشري الفكرة المتعلقة بأنه يمكن تنمية المعارف والمهارات لدى العاملين من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب والتعلم".
النقد الموجه لنظرية رأس المال البشري
على الرغم من المساهمات الكبيرة لنظرية رأس المال البشري في التفكير المؤسسي المعاصر لإدارة أفراد المؤسسة، إلا أن هناك بعض الانتقادات التي وجهت للنظرية ومنها أن التعليم والمكاسب في نظرية رأس المال البشري تتجاهل دور خبرة العامل، حيث لم تتطرق النظرية لقياس الخبرة على الرغم من أهميتها بالنسبة للمؤسسة والتي تلعب دور هام في اختيار وتعيين العامل، كما يمثل مفهوم القدرة من منظور بيكر مؤسس نظرية رأس المال البشري مشكلة مستمرة، حيث يشير العديد من الباحثين إلى إمكانية استبدال التأثير السببي المزعوم للتعليم على المكاسب المؤسسية بالقدرة بدلاً من المهارات التي تعزز الإنتاجية المكتسبة من خلال المؤسسات التعليمية، كما أن بيكر تجاهل أي تعليم أو تدريب غير منظم بشكل رسمي أو يتطلب استثمار مالي، حيث ركز بشكل كبير على الاستثمارات في التدريب الرسمي العام والخاص، وتجاهل دور التعلم والتدريب غير الرسمي، حيث يقوم التعلم والتدريب غير الرسمي على التعلم من التجارب العملية.
وقد تمحورت معظم الانتقادات حول اسم النظرية، إذ كانت تسمية "رأس المال البشري" تشكل موضع خلاف كبير للغاية. لكن محتواها لم يكن أقل انتقادا من التسمية، حيث واجهت فكرة أن موضوعًا مثل التعليم يمكن تحليله من منظور اقتصادي شكًا كبيرًا بين الاقتصاديين وغير الاقتصاديين. علاوة على ذلك، أدى ارتباط بيكر باقتصاديات شيكاغو أيضًا إلى انتقادات، حيث كان يُنظر إلى ذلك على أنه طريقة غير مباشرة لإضعاف المبررات غير الاقتصادية التي تدعم التعليم وتبني وجهات نظر صديقة للسوق في مجال مهم من السياسة الاجتماعية.
خلاصة:
يدعم رأس المال البشري قيمة للإنسان الذي يجب عليه دائمًا توفير مجموعة عامة من الخصائص الأساسية من أجل العمل كمورد اقتصادي. لا يمكن مواجهة نظرية إدارة رأس المال البشري بالرفض المطلق. عند تحليل نظرية رأس المال البشري من منظور اقتصادي بحت، قد يبدو للكثير أنها إلى حد ما غير إنسانية لكن أصبحت المنظمات الاقتصادية وغير الاقتصادية اليوم تدرك أنه باستخدام إدارة رأس المال البشري، يمكنها خلق ثقافة عمل صحية تشجع الموظفين على تطوير مواهبهم وتجميعها معًا.
من جهة ثانية، يمكن لممارسة إدارة رأس المال البشري السليمة أن تبني ثقة العملاء، وثقة الموظف بنفسه (من خلال إعادة تأكيد مواهبه وتقديره لذاته داخل المنظمة)، وبالتالي، شعور متزايد بالولاء والتفاني في نتائج الشركة ككل. إذا شعر الموظفون بالتقدير، فإن الموظفين سيقدرون ويضيفون قيمة لمنظمتهم من خلال التدريب المعزز للأداء وإدارة رأس المال البشري العملية، يكون الموظفون مجهزين بشكل أفضل لاتخاذ قرارات مستقلة بشأن الثروة الجماعية ونجاح الأعمال ككل.
مراجع يمكن الرجوع إليها:
Becker, G. S. (1964). Human capital theory. Columbia, New York, 1964.
Becker, G. S. (1975). Front matter, human capital: A theoretical and empirical analysis, with special reference to education. في Human Capital: A Theoretical and Empirical Analysis, with Special Reference to Education, Second Edition (ص 22–0). NBER.
Bidell, T. (1988). Vygotsky, Piaget and the dialectic of development. Human Development, 31(6), 329–348.
Ehrenberg, R. G., & Smith, R. S. (2016). Modern labor economics: Theory and public policy. Routledge.
Houghton, E. (2017). Human capital theory: assessing the evidence for the value and importance of people to organizational success.Technical report, CIPD, USA.