طلب خدمة
استفسار
×

التفاصيل

عدد المشاهدات(1950)

البعد المعرفي للنظرية النقدية عند مدرسة فرانكفورت

المقال الرابع: يورغن هابرماس والأساس المعرفي للنظرية النقدية الاجتماعية

 

يعتبر يورغن هابرماس أبرز ممثلي النظرية النقدية في مرحلتها المعاصرة وتمثل فلسفته امتداداَ لإنتاجات رواد المدرسة، فقد عمل على الإشكاليات ذاتها التي طرحها فلاسفة النظرية النقدية منذ إنشائهم للفلسفة الاجتماعية التي ترمي إلى نقد الواقع الاجتماعي، لهذا فإن أهمية أعماله تكمن في الطابع المتجدد الذي اكتسبته النظرية النقدية من خلال تقديمه لمصطلحات جديدة للتحليل وللمعرفة، فإن أهم ما يميز أعماله الفلسفية أنه محاولته لبناء جسر يوصل بين النظرية والممارسة، أو بين الفلسفة الترانسندنتالية والفلسفة العملية أو بين حقل العلوم التقنية والأخلاق، كما وجه نقداَ جوهريا لمدرسة فرانكفورت لتجنب أخطائها الفلسفية الترانسندنتالية (المتعالية) الكانتية والجدل الشمولي الهيجلي وفي ضوء تحليلاته لكل من فلسفة هوكهایمر وأدورنو اللذان قد وظفا نقد الايديولوجيا لنقد العقل البروجوازي حتى صار موضعاَ للشبهة وبدا كأنه يلغي ذاته بذاته.

يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت

هذا ما دعا يورغن هابرماس إلى نقد العقل في مشروعه الفكري، ولكن لم ينقد العقل بمجمله إنما قام بالبحث عن العناصر العقلانية في الحداثة (عصر التنوير) لنقد الأشكال المتناقضة فيه، فقد ميز بدوره بين النظرية بمعناها التقليدي والنظرية بمعناها النقدي وعرض النظرية النقدية محدداَ مفهومها من خلال فلسفة هوسرل في أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية[AR1] ، فسعى يورغن هابرماس من خلال تحليله الكشف عن وهم النظرية الخالصة التي طالما أراد هوسرل أن ينميه وعن العلاقة التي تربط بين الأنطولوجيا التي ينشئها والوضعية التي ينتقدها، كما سعى إلى بيان ميزة النظرية النقدية في مقدرتها على إنشاء تأمل مزدوج : تأمل السياق الذي أنشأها وتأمل سياق تطبيقها، فبهذا التأمل تتساءل النظرية عن العنصر غير النظري لنشأتها أو لتأثيرها، وبهذا أعطى فهما موسعة للعقل وبين أن العقل لا يتأمل ذاته وحسب إنما يتأمل المصالح التي تقوده.

بدء يورغن هابرماس في تتبع أسباب تغير بنية المجال العام لأنه "يشير إلى الوعي المشترك بين الذوات، وهو العالم الذي يتضمن الحياة اليومية، وعلاقة الأفراد بعضهم ببعض، والنطاقات غير الرسمية كالعائلة، والثقافة، واللغة، و الحياة السياسية خارج إطار الأحزاب المنظمة، ووسائل الإعلام الجماهيري وغيرها، فما أصاب المجتمع الغربي من تحولات نتيجة تأثير أيديولوجيات الفئة الأقوى بالمجتمع كالأحزاب السياسية والتي تبث أفكارها وتوجهاتها عبر وسائل الإعلام والدعايات، والتي أسهمت في التأثير على الوعي الغربي بشكل مبطن، حتى أصبح المجال العام مجالا للتنافس بين المصالح التي يوجهها العقل، وخلص إلى الاتفاق مع ماركوز حول نقد العقل الأداتي، إلا أنه قد اختلف معه من حيث أن التقنية بالنسبة ليورغن هابرماس هي مشروع اجتماعي تاريخي، فالتطور التقني يخضع المنطق ويتبع بنية الفعل العقلاني الموجه نحو هدف، وبمعنى أوضح أن الإنسان يقوم بإنتاج تقنية معينة تحقق له قسطا من الراحة واليسر وفقا لاحتياجاته، وطالما أن تنظيم الطبيعة الإنسانية لا يتغير والمحافظة على حياتنا من خلال العمل الجماعي بمساعدة الآلات فكيف لنا التخلي عن التقنية؟ لذا فإنه يرى أن النظرية النقدية كان يجب أن تدلي بدلوها في أنوع المؤسسات الضرورية لحماية الأفراد من مفاتن التطرف السياسي، من ناحية، وعمليات النهب التي يقوم بها الاقتصاد الرأسمالي المتنامي سريعة من ناحية أخرى

من الواضح أن يورغن هابرماس قام باستبدال قوى الإنتاج بالعلم في المادية التاريخية للنموذج الاجتماعي، لكن المشكلة تكمن في تفاقم التقدم العلمي والتقني اللذان ألغيا عقلانيتهما والهدف منهما، وأصبحا يستخدمان كإيديولوجيا للنظام الاجتماعي الذي صار يجسد اللاعقلانية وهنا تكمن المشكلة. لم يرفض يورغن هابرماس في انتقاده الأنموذج الوضعي السائد للمعرفة فينومينولوجيا الروح الهيغلية في تناقضها الجدلي بل وجدها من أبلغ الصيغ الفلسفية، بالإضافة إلى تفعيل الطاقة النقدية الماركسية بنقدها للأيدلولوجيا.

وقد عمل يورغن هابرماس على تحرير الوعي الاجتماعي من تأثير العلم وتقنياته بوضع أسس نظرية لممارسة مجتمعية تحررية لإعادة تحديد إشكالية العلاقة بين النظرية والممارسة فصنف العلوم في أحد كتبه المهمة "المعرفة والمصلحة" إلى ثلاثة أقسام بناء على ارتباطها بثلاثة مصالح مختلفة فكل علم له قواعد منهجية منطقية ومصالح مكونة للمعرفة فهناك:

1. العلوم التجريبية التحليلاتية تدخل مصلحة معرفة تقنية: وهي تقوم على بيانات علمية تحت مظهر الموضوعية فتمكن من صياغة نظريات قابلة للتحقق من صحتها تجريبياَ، وصياغة هذه النظريات مرتبط باستخدامها تكنيكية ولا يكون إلا نتيجة لقواعد الأداء التي نقوم بمقتضاها بتطبيق النظرية في الواقع، فهي علوم تنظم مسبقا خبراتنا في مجال نستطيع فيه ممارسة الأنشطة الأداتية.

2. في منطلق العلوم الهرمنوطيقية التاريخية تدخل مصلحة معرفة عملية: وهي تنطلق من دراسة ما يحدث وهي علوم لا تزعم موضوعيتها فصلاحية قضاياها لا يرتبط بالحكم التكنيكي إنما فهم المعنى هو ما يقيم صلة بيننا وبين الوقائع مما لفت الانتباه إلى أهمية اللغة والأنظمة السيميائية لتحقيق مصلحة عملية وهي التفاعل الإنساني.

3. في منطلق العلوم المتوجهة نقدية تدخل مصلحة المعرفة المحررة: والتي تشكل صورة غير معرف بها أساس النظريات التقليدية، وهي تنطلق من العلوم المرتبطة بالممارسة مثل علم الاجتماع وعلم السياسة والتحليل النفسي أي التي تصل إلى معارفها من خلال التأمل الذاتي للكشف عن كل ما هو قائم في الوقع.

4. واقع يحد من مقدرة الإنسان على فعل التواصل والتفاعل الإنساني وبهذا يكون لها أن تتحول إلى علوم قائمة على مصلحة في نقد الواقع والتحرر بإجماع حقيقي لأفراد واعين بذواتهم.

وتشترك العلوم مع الفلسفة في الانطلاق من هذه المصلحة في مجال العمل وفي مجال اللغة ومجال السيطرة، فالأمر الذي تقوم عليه صياغة نظرية نقدية اجتماعية تحد تكون الوعي الفردي والجماعي الحر من خلال التأمل الذاتي المحدد بمصلحة تحررية هو التمييز بين الفعل الأداتي والفعل التواصلي مؤكدا على أن الفعل هو نشاط عقلاني بالقياس إلى غاية، و يعني بذلك أنه إما أن يكون نشاطاَ أداتياَ، أو اختيارياَ عقلانياَ، أو تنسيقياَ بين الاثنين، حتى يستطيع الفرد أن يتحقق من هويته الإنسانية ثم يدرك عملية التشكل الذاتي للتاريخ الإنساني وبالتالي يمتلك الإرادة التي منها يبلور علاقاته متحررة من أي اغتراب محققاَ استقلاليته وانسجامه الجماعي من خلال العقل. لا شك أن يورغن هابرماس قام بعملية إعادة بناء للعقلانية مطورة إياها إلى بني للاتصال والتواصل الهادف للتفاهم بناء على أسس حوارية هادفة تقوم على الاتصال اللغوي وفي إطار أخلاقي عالمي "وهذه النظرية الاجتماعية تقدم أهداف الانعتاق والتحرر الإنساني ضمن إطار أخلاقي عالمي، تستند إلى حجج براغماتية عبر اللغة والمعنى من خلال الحوار الهادف إلى الفهم المتبادل.

كان ذلك هو الإطار المنهجي الذي قدمه يورغن هابرماس والذي يقوم على أساس التفكر الذاتي (التأمل الذاتي) لتحديد صحة القضايا النقدية، إذ أن التفكر بالذات يعني المقدرة على كشف العلاقة بين المصالح المعرفية والنظم المعرفية، وبهذا يتم الكشف عن الجانب النقدي في العقل الإنساني الذي يرتبط بمصلحة التحرر وعليه تنكشف الذات الإنسانية أو المجتمع على نفسه في شفافية يختفي بها كل ما هو غير معروف من أشكال الزيف الداخلي أو الخارجي، فلا يعود خاضعاَ لأي قوى قامعة لحريته. وهكذا أيضا أصبحت الفلسفة مع يورغن هابرماس هي التفكير النقدي بحيث أنها تكشف عن الشروط العامة لإمكانية المعرفة والفهم والفعل، كما بين دورها في عملية التحرر الفردي والاجتماعي من معوقات التشكل الذاتي ومقدرتها على تصحيح مسارات العلوم الأخرى حتى يكون السؤال الفلسفي: كيف يتم إشباع أبعاد الحياة الإنسانية بعدالة؟ وتعد أخلاقيات الخطاب محوراَ أساسياَ في فلسفة يورغن هابرماس التواصلية؛ لأنها تعمل على تطور خصائص كونية مثل العدالة والمساواة فمن الضروري إيجاد الظروف الملائمة لاندماج الأفراد في المجتمع وإقامة نظام اجتماعي مبني على معايير صحيحة.

إن أخلاقيات الخطاب تمثل امتداداَ للبعد الأخلاقي الضمني الذي لم تعره النظرية النقدية الاهتمام المطلوب، والسبب يعود إلى عدم إيمان رواد النظرية النقدية من الجيل الأول بالعيش النزيه في خضم الوجود المتضرر وبالتالي فإنه مهما كان الأمر الأخلاقي واضحة فثمة على الدوام مفارقات تحف به.

وبذلك نستنتج الفلسفة مع يورغن هابرماس دخلت ضمن العلوم النقدية الأخرى والتي تكشف عن شروط إمكان المعرفة والفهم والفعل وأصبح لها دور في التحرر الاجتماعي من القيود اللا واعية، والتي تعيق التأمل أو التشكل الذاتي كما أن لها دورا آخراَ في تصحيح مسار العلوم الأخرى، وهو الهدف الذي سعى خلفه فلاسفة المدرسة الأوائل كما بينا في المقال الأول من هذه السلسلة، والتي نرجو أن تمثل إضافة للباحثين وطالبي المعرفة المهمومين بتغيير المجتمع من خلال النقد المنطلق من تطوير النماذج المعرفية.

المراجع

1. Adorno, T. (2004). Negative dialectics, London: Taylor & Frances e-Library.

2. Adorno, T. and Horkheimer. M. (2006). Dialectic of enlightenment: Philosophical nuggets, Trans: George Katoorah, 1st, Tripoli: Dar al kitab al jaded.

3. Bronner, S. (2016). Critical theory: A very short introduction, Trans: Sara Adel, 1st ed, Cairo: Hindawi Foundation for Education and Culture.

4. Finlayson, J. (2016). Habermas: A very short introduction, Trans: Ahmed Alrouli, 1st ed, Egypt: Hindawi Foundation for Education and Culture.

5. Habermas, J. (1979). Communication and the evolution of society, Trans: cit.

6. Habermas, J. (1982). The Entwinement of Myth and Enlightenment, Op. Cit.

7. Habermas, J. (1996). Between facts and norms: contribution to discurse theory of law and democracy: William Rehg, Cambridge, MIT press.

8. Horkheimer. M., (1990). The traditional theory and the critical theory. Trans: Moustafa Alnawi, 1st ed, Casablanca: New success Publication.

9. Marcuse. H., (1988). One dimension man, Trans: George Tarabishi, 3rd ed, Beirut: House of Art.

10. Marcuse. H., (2011). Negative dialectic: Studies in critical theory, Trans: Mujahid Abhulmeniem, 1st ed, Dar al kalima for publishing and distribution.

 

 

للاطلاع على المقال الثالث أضغط هنا  


 [AR1]

التعليقات


الأقسام

أحدث المقالات

الأكثر مشاهدة

خدمات المركز

نبذة عنا

تؤمن شركة دراسة بأن التطوير هو أساس نجاح أي عمل؛ ولذلك استمرت شركة دراسة في التوسع من خلال افتتاح فروع أو عقد اتفاقيات تمثيل تجاري لتقديم خدماتها في غالبية الجامعات العربية؛ والعديد من الجامعات الأجنبية؛ وهو ما يجسد رغبتنا لنكون في المرتبة الأولى عالمياً.

Visa Mastercard Myfatoorah Mada

اتصل بنا

فرع:  الرياض  00966555026526‬‬ - 555026526‬‬

فرع:  جدة  00966560972772 - 560972772

فرع:  كندا  +1 (438) 701-4408 - 7014408

شارك: