تطور النظرية النقدية عند أدورنو وماركوز
البعد المعرفي للنظرية النقدية عند مدرسة فرانكفورت المقال الثالث: تطور النظرية النقدية عند أدورنو وماركوز
رغبة منا في إعادة الفلسفة إلى الحياة اليومية من خلال الاشتباك مع الواقع المعاصر، والتأثير فيه بهدف إحداث فارق في حياة الأفراد والمجتمعات، نقدم هذه السلسلة التي تعنى بالتأصيل للنظرية النقدية عند مدرسة فرانكفورت، وذلك من خلال رصد وتتبع التحولات المعرفية عند فلاسفة المدرسة بدءاَ من هوركهايمر ومرورا بتيودور أدورنو وهربرت ماركوز وانتهاءَ بهابرماس، وقد تناولنا في المقالين السابقين الجو التاريخي الذي ظهرت فيه مدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية والفلاسفة الذين أثروا في أفكار المدرسة أمثال إيمانويل كانت وماركس وماكس فيبر وهيجل وغيرهم، وكذلك فقد تناولنا التحول المعرفي للنظرية النقدية عند هوركهايمر من خلال نقده للتنوير باعتباره مكونا من مكونات الحداثة الغربية، وفي هذا المقال نواصل الحديث عن التحولات المعرفية في النظرية النقدية والتي ترمي إلى نقد الواقع الاجتماعي عند تيودور أدورنو وهربرت ماركوز.
تيودور أدورنو والجدل السلبي
كان تيودور أدورنو منشغلا بالتعبير عن انكسار الفرد عبر التاريخ الاجتماعي، خاصة خلال التاريخ المعاصر لخلو الكتابة التاريخية غالبا عن الإشارة إلى معاناة الإنسان المأساوية. ويعود تيودور أدورنو إلى ماركس وفكرته عن اغتراب الإنسان في ظل العلاقات الرأسمالية والبرجوازية وتصوير نماذج السلوك والتعامل بين الناس، فبناء على فكرة أن السلع لا تقاس بقيمتها الواقعية التي يحددها الاستخدام، إنما تقاس بقيمة مجردة يحددها السوق ويرد كل شيء إلى هذه القيمة المجردة فيقارن بأي شيء آخر ويقايض عليه بناء على ذلك يتم الاتحاد بين كائنات مفردة وإنجازات متفاوتة وغير قابلة للاتحاد بينها، بل ويتسع هذا المبدأ على العالم كله فيطبعه بالوحدة (الهوية والشمول) أي: القدرة على تصوير استئصال الذاتية في مجتمع خاضع للإدارة الشمولية، ويمتد هذا التعميم والشمولية لكل ما هو جوهري إلى التفكير والحكم فلا يكون للفرد مضمون مختلف عن المجتمع بسبب انغماسه فيه وفي علاقته بمواضيعه.
هنا نجد تيودور أدورنو يبين لنا كيف يقوض النفي الهيغلي الذي يفترض بأنه ينتج محددات أكثر إيجابية للحرية والاستقلال عبر التشيؤ أو الاغتراب من خلال رؤية مناقضة لمقولة هيغل الشهيرة "الكلي هو الحقيقي" إذ يصبح "الكل" هو التعبير التصوري المكتفي ذاتية عن العملية الجدلية بمعني أنه لا يمكن التعرف إلى الكل إلا من السياق الاجتماعي المسيطر، وهكذا تكون مسيرة العقل الجدلية بالنسبة تيودور أدورنو في تبينها عكس مقولة هيغل بأن الكل ليس حقا بل الجدلية هي الوعي الصارم بالهوية ويبقى على الإنسان أن يخلق هذا الحق ويوجده بنفسه من خلال الجدل السلبي المتمثل في التناقضات والتوترات الكامنة في أساس المجتمع والمتسلطة على التفكير مبدأ التسلط والتي تسبب الاختلاف بين المفهوم والموضوع الخاضع له. فالتفكير التصوري هو الذي يحتوي الموضوع ويستوعبه بمثالية، أما بالنسبة إلى تيودور أدورنو فهو ينادي بالحفاظ على عدم الوحدة "عدم الهوية" حتى يبلغ الإنسان تفكيراَ جدلياَ، فيصبح هذا الجدل هو الوعي بالوحدة، ولا شك أنها تتحقق بتجاوز المفاهيم لنقيضاتها، فيقترب الجدل مما يخلو من كل مفهوم حتى يستغرق الوعي بصورة واعية في الظواهر التي يتصل بها أو يدخل معها بعلاقة وعلى حد تعبير تيودور أدورنو: "إن الفلسفة هي المجهود المتناقض المتمثل في قول ما لا يمكن قوله، عبر التوفيق والسياقية" ( 97: Bronner, 2016 , p ).
يهدف تيودور أدورنو بالجدل السلبي إلى الإبقاء على اختلاف الآخر والاحتفاظ عليه، وهو هدف لا يتحقق على المستوى الفردي إنما على مستوى الإنسانية حتى تتحرر من الاغتراب عن الأشياء والناس، بعدها تجد سعادتها واختلافها عن الآخر، فهو يؤكد على اللا هوية بين الذات والموضوع والفرد والمجتمع وبين الخاص والعام، ويتضح هذا الهدف من خلال:
- التسليم بأولوية الموضوع.
- رفض التفكير النسقي.
هربرت ماركوز والإنسان ذو البعد الواحد
قدم هربرت ماركوز نظريته النقدية موجهة للمجتمع الصناعي - ذو البعد الواحد - في النظام الرأسمالي وحدد دور العقل من خلال تفكيك بنية هذا المجتمع ومؤسساته السياسية ثم أوكل إليها مهمة تغيير الواقع عن طريق الثورة عليه والبحث عن معطيات وقوى جديدة لم تنخرط في مجال الصناعة بعد، إذ رأي بانتقاده للعقل الأداتي أنه على الرغم من وجود مقدرات عقلانية في المجتمع الصناعي إلا أن النظام الرأسمالي يتسم باللاعقلانية بسبب توظيف العقل في الحضارة الصناعية فصار عقلا أداتياَ يظهر بجلاء من خلال وظيفة تنميط الحياة بإيحاءات أجهزة الإعلام من خلال الدعاية والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري التي تولد احتياجات وهمية جديدة للبشر بالترويج للسلع حتى تعمل على زيادة الإنتاج، فهذه الاحتياجات لم تنشأ من داخل الفرد إنما الأسباب تقنية واقتصادية وأصبح الإنسان ذو البعد الواحد هو ذاك الذي استغني عن الحرية بوهم الحرية.
لقد انطلق هربرت ماركوز بذلك من حيث ما تم انتقاده في الجدل التنوير" أي من اضمحلال العقل وثورية الطبقة العاملة باندماجها الهيكلي في نظام السلطة، وبالتالي اتفق مع هورکهایمر وأدورنو حول الكف عن توجه النظرية النقدية بخطابها إلى الطبقة العاملة والبحث بدلا منها عن ذات أخرى يوجه إليها الخطاب الفلسفي النقدي ليعبر عن رغبتها في التحرر من اغترابها بالتمييز بين حاجات حقيقية إنسانية بقيم متصلة بالواقع الإنساني وفق معايير لتجاوز الوضع الراهن، وحاجات أخرى كاذبة تبرر العمل الشاق وتبرر العدوانية والبؤس والظلم الواقع على الفرد المهمش وينتقد هربرت ماركوز الاتجاه الوضعي الممجد للمعرفة العلمية التجريبية الذي يستلهم نقطة انطلاقه من علوم الطبيعة وبوصفها نموذجا لليقين وللدقة أنه يبحث عن نظرة موحدة لعالم الظواهر الطبيعية والاجتماعية بذات المنهج العلمي.
وختاماَ فإننا قد سعينا في هذا المقال إلى رصد التحولات المعرفية في النظرية النقدية عند اثنين من كبار فلاسفة مدرسة فرانكفورت وهما ثيودور أدورنو وهربرت ماركوز، واللذين قاما بنقد الواقع الاجتماعي، انطلاقا من النموذج المعرفي لكلِ منهما، ونأمل أن نكون قد نجحنا في تقريب أفكار كلا الفيلسوفين إلى المثقف العادي، وبالتالي الباحثين المهتمين بمدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية، وسنسعى في المقال القادم والأخير إلى رصد البعد المعرفي في فلسفة الفيلسوف هابرماس ونظريته النقدية.
المراجع
1. Adorno, T. (2004). Negative dialectics, London: Taylor & Frances e-Library.
2. Adorno, T. and Horkheimer. M. (2006). Dialectic of enlightenment: Philosophical nuggets, Trans: George Katoorah, 1st, Tripoli: Dar al kitab al jaded.
3. Bronner, S. (2016). Critical theory: A very short introduction, Trans: Sara Adel, 1st ed, Cairo: Hindawi Foundation for Education and Culture.
4. Finlayson, J. (2016). Habermas: A very short introduction, Trans: Ahmed Alrouli, 1st ed, Egypt: Hindawi Foundation for Education and Culture.
5. Habermas, J. (1979). Communication and the evolution of society, Trans: cit.
6. Habermas, J. (1982). The Entwinement of Myth and Enlightenment, Op. Cit.
7. Habermas, J. (1996). Between facts and norms: contribution to discurse theory of law and democracy: William Rehg, Cambridge, MIT press.
8. Horkheimer. M., (1990). The traditional theory and the critical theory. Trans: Moustafa Alnawi, 1st ed, Casablanca: New success Publication.
9. Marcuse. H., (1988). One dimension man, Trans: George Tarabishi, 3rd ed, Beirut: House of Art.
10. Marcuse. H., (2011). Negative dialectic: Studies in critical theory, Trans: Mujahid Abhulmeniem, 1st ed, Dar al kalima for publishing and distribution.
للاطلاع على المقال الثاني أضغط هنا