الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم
إشراقات من سورة المعارج
(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ، وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ) المعارج: 11-14.
سؤال هذه الإشراقة: لماذا لم يذكر على لسان المجرم أنه على استعداد لأن يفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة بأمه وأبيه، في حين ذكر الحق سبحانه وتعالى في سورة عبس: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) عبس: 34-36.
إننا أمام مشهد مرعب من مشاهد يوم القيامة؛ مشهد يخلع القلوب من أماكنها، حتى إن المجرم -من شدة وهول الموقف- يتمنى لو نجا من عذاب ذلك اليوم، مفتديًا نفسه بأقرب الناس، وأعزهم على نفسه فبدأ بالأبناء وهم أعز الناس عليه، ولكن أهوال ذلك اليوم تجعله يفتدي نفسه بهم، ثم ثنَّى بزوجته، ثم بأخيه، ثم بعشيرته التي كان يستقوي بها، وأخيرًا، لو استطاع أن يفتدي نفسه من عذاب يومئذ، بأهل الأرض كلهم، لفعل، والغريب أنه مع إجرامه -كما وصفه ربه سبحانه- إلا أنه لم يفتد نفسه بأمه وأبيه، وكما يقول فاضل السامرائي لأنه لو فعل لأغضب الرب، انظر. إنه على إجرامه إلا أنه يخشى غضب الرب عز وجل، لأن الله جل جلاله أوصى في مواضع كثيرة بالإحسان للوالدين، فإن يفتدِ نفسه بهما -ولن يستطيع- يكن قد خالف أوامر الرب سبحانه.
ولكن الحق تبارك وتعالى ذكر في سورة عبس: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ...) فكيف يمكننا التوفيق بين الآيتين؟
وللتوفيق بين الآيتين لا بد من التفريق بين جوهر السياقين في الآيتين، فسياق آية سورة المعارج يتحدث عن حالة افتداء الابن من عذاب يومئذ بأقرب المقربين إليه، أما آية سورة عبس فتتحدث عن حالة فرار الابن من أمه وأبيه، فهل يمكن المساواة بين افتداء النفس بقذف الوالدين في جهنم، وبين الفرار منهما؟ وأي المشهدين أشد عقوقًا من الآخر؟ وأي الموقفين أشد إجرامًا؟ والجواب: أن مشهد افتداء النفس بقذف الوالدين في جهنم هو أكثر إيلامًا وعقوقًا، وأشد إجرامًا...من الفرار، فهروب المرء من أمه وأبيه، لا يمكن أن يصل إلى درجة قذفهما في جهنم، لذا لم يذكرا حالة الافتداء في آية سورة المعارج، على الرغم من إجرام المجرم. بينما من الممكن أن يهرب المرء من أمه وأبيه يوم القيامة، فالهروب أقل جرمًا بكثير من الافتداء، إذ قد تدركهما رحمة الله وعفوه، على الرغم من فرار ابنهما منهما، لذا ذكرا في هذه السورة. والله -تعالى- أعلى وأعلم بمراده.