أخطاء الباحثين في إجراءات التحقق من صدق الأدوات المستخدمة في البحوث التربوية العربية المقال الرابع
لا شك أن البحوث التربوية تمثل ركنا هاما من الأركان التي يقوم عليها بناء النهضة والتقدم، إذ تتحكم هذه البحوث في القرارات المتعلقة بالتربية والتعليم وتنشئة الأجيال، وإن من الاهتمام بهذه البحوث التربوية السعي لتحسين الأدوات البحثية للخروج بنتائج أكثر دقة مما يساهم في الارتقاء بجودة المنتج المتمثل في الطلاب والتلاميذ؛ لذا نقدم هذه السلسلة التي تعنى ببيان إجراءات التحقق من ثبات وصدق أدوات القياس المستخدمة في البحوث التربوية العربية، بهدف إحداث نقلة نوعية في مستويات الباحثين في العلوم التربوية، وقد حاولنا في المقالات السابقة مناقشة بعض المفاهيم الهامة في القياس النفسي والتربوي، وخصوصا تلك المفاهيم المتعلقة بصدق التكوين الفرضي وثبات الاتساق الداخلي، بالإضافة إلى توضيح مفهومي ثبات أدوات القياس وصدق أدوات القياس، وكذلك بيان الأساليب المستخدمة في الكشف عن صدق البناء في الأبحاث التربوية. وسنسعى في هذا المقال إلى بيان الطرق المستخدمة في البحوث التربوية للتحقق من صدق أدوات القياس، وكذلك المستخدمة للتحقق من ثبات أدوات القياس، بالإضافة إلى نسبة البحوث التي تعتمد على أدوات قياس مقننة. وفي هذا المقال نسعى للإجابة عن التساؤلات الآتية:
1. ما هي أكثر الطرق التي يسلكها الباحثون للتحقق من ثبات أدوات القياس في البحوث التربوية ؟
2. ما هي أكثر الطرق التي يسلكها الباحثون للتحقق من صدق أدوات القياس في البحوث التربوية ؟
3. ما نسبة البحوث التي تعتمد على أدوات قياس مقننة أو منشورة؟
يعتمد الباحثون بشكل أساسي على طريقة الاتساق الداخلي لحساب ثبات أدوات المقياس؛ حيث بلغت نسبة استخدام طريقة التجزئة النصفية أو معامل ألفا أو معامل كيودر – ريتشاردسون منفردة أو مع طريقة أخرى 87% تقريبا، وبلغت نسبة استخدام طريق إعادة التطبيق منفردة أو مع طرق أخرى 32%، مما يبين اتجاه الباحثين نحو الاعتماد على طريقة الاتساق الداخلي لحساب الثبات؛ نظرا لأنها تختصر الوقت، ولا تتطلب التطبيق إلا مرة واحدة. ويمكن أن نستدل من النتائج السابقة على أن الباحثين يتجهون لاختيار الطريقة العملية لحساب الثبات، بغض النظر عن طبيعة مصادر الأخطاء غير المنتظمة التي تهدد القياس.
ثانيا: أكثر الطرق المستخدمة للتحقق من صدق أدوات القياس في البحوث التربوية
يعتمد الباحثون بشكل أساسي على طريقة الصدق المرتبط بالمحتوى؛ حيث بلغت نسبة استخدام هذه الطريقة منفردة أو مع طرق أخرى 77%، تليها طريقة الاتساق الداخلي، حيث بلغت نسبة استخدام هذه الطريقة منفردة أو مع طرق أخرى 52%. وعند مراجعة إجراءات هذه الطرق في البحوث محل الدراسة وجد أن ثمت العديد من الأخطاء العلمية والإجرائية، ومن ذلك أن العديد من الباحثين يطلقون مسمى "صدق المحكمين" على طريقة الصدق المرتبط بالمحتوى، كما لو كان الهدف هو التأكد من صلاحية المحكمين لقياس السمة، كما افتقدت تعليمات المحكمين إلى المعايير الإجرائية التي تستخدم في تقدير صلاحية فقرات المقياس، ولم تستخدم أي دراسة أي طريقة كمية لمعالجة استجابات المحكمين، وفي بعض الدراسات لم يتم وصف عينة المحكمين إطلاقا.
ويمكن أن نستنتج من نسبة استخدام الصدق المرتبط بالمحتوى فقط، التي بلغت % 35، قصور الباحثين عن إدراك مفهوم الصدق كمفهوم متعدد الأبعاد، والاكتفاء ببعد واحد فقط، هو الصدق المرتبط بالمحتوى، فرغم أهمية هذا الجانب، فإنه يعتبر غير كاف، وبخاصة عند استخدام أساليب إحصائية تشترط اعتدالية توزيع الدرجات؛ لأنه من الممكن أن تمثل الفقرات السمة تمثيلا جيدة وتنتمي جميعها للمجال المستهدف بالقياس، لكنها تفشل في تقديم أي معلومات عن تباين مستوى السمة لدى المفحوصين؛ نظرا لتطرف معاملات الصعوبة، وضعف معاملات التمييز، فيحصل الجميع على درجات متشابهة، ويظهرون كعينة متجانسة، لذلك يجب الاهتمام بقدرة أداة القياس على التمييز بالإضافة لصدق محتواه.
وثمت إجراءان للتحقق من قدرة المقياس على التمييز بين المستويات المختلفة للسمة المقاسة، أولهما: تحليل داخلي وعلى مستوى الفقرات، حيث يتم حساب معامل تمييز الفقرات بحساب معامل الارتباط بين درجة الفقرة والدرجة الكلية على المقياس عندما يقيس سمة أحادية البعد بعد تحرير الدرجة الكلية من درجة الفقرة، أو حساب معامل الارتباط بين درجة الفقرة ودرجة البعد بعد تحرير درجة البعد من درجة الفقرة، وذلك عندما يتكون المقياس من عدة أبعاد، ثم استبعاد الفقرات التي يقل معامل تمييزها عن 0.3 ، وسمي هذا التحليل بأنه تحليل داخلي لأننا اعتمدنا على الدرجة الكلية للمقياس أو البعد كمحك لقياس قدرة الفقرة على التمييز.
أما الإجراء الثاني لتقدير الصدق التمييزي للمقياس فهو التحليل الخارجي وعلى مستوى الدرجة الكلية للمقياس، حيث يتم تصنيف المفحوصين بناء على درجاتهم الكلية إلى مجموعتين: واحدة مرتفعة السمة، وأخرى منخفضة السمة، ثم اختيار مقياس خارجي يقيس السمة نفسها كمحك، وحساب دلالة الفرق بين متوسطي درجات هاتين المجموعتين على الاختبار المحك، وتعد دلالة هذا الفرق دليلا على قدرة المقياس على التمييز، وهو ما يعرف بالصدق التمييزي. وبشكل آخر يمكن اختيار محك خارجي مناسب، وتصنيف المفحوصين في ضوئه إلى مجموعتين أو مجموعات متمايزة في مستوى السمة المستهدفة بالقياس، ثم حساب دلالة الفروق بين متوسطات درجات هذه المجموعات على المقياس، وتعد دلالة هذه الفروق دليلا على قدرة المقياس على التمييز.
وبمراجعة إجراءات الطريقة التي أطلق عليها الباحثون صدق الاتساق الداخلي" نجد أن ذلك المسمى الخطأ يتضمن إجراء صحيحا، حيث يتم في هذه الطريقة حساب معامل الارتباط بين درجة الفقرة والدرجة الكلية للبعد، أو حساب معامل الارتباط بين درجة الفقرة والدرجة الكلية للمقياس، أي حساب معاملات تمييز الفقرات، الذي يسهم بشكل جيد في التحقق من صدق الفقرات، التي تمثل بنية المقياس.
وهنا يجب أن نميز بين هذا الاتساق الداخلي" المزعوم من قبل الباحثين، الذي يجب أن يعاد تسميته بالتحقق من قدرة الفقرات على التمييز"، وبين الاتساق الداخلي كأحد طرق حساب الثبات، الذي يعتمد على إيجاد متوسط معاملات الارتباطات بين كل فقرات المقياس، وذلك باستخدام معامل ألفا أو كبودر - ريتشاردسون، والذي يمكن أيضا أن يستخدم كمؤشر أولي لصدق البناء، لكنه غير كاف؛ لأنه يدل على تجانس الفقرات ولا يدل على كفايتها في تمثيل المجال المستهدف.
قام الباحثون بإعداد 78 مقياسا من بين 92 مقياسا، أي ما يعادل 85 % من المقاييس، وهي نسبة كبيرة، وتعد مؤشرا على عدم جودة البحث التربوي، وبخاصة مع وجود أخطاء في إجراءات التحقق من ثبات هذه الأدوات وصدقها، فلكي يتم الوثوق في نتائج البحوث لابد من الاعتماد على أدوات قياس ذات خصائص سيكومترية جيدة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن إعداد أدوات القياس لا يعد هدفا في حد ذاته، لكنه وسيلة لجمع البيانات التي تسهم في الإجابة عن تساؤلات البحث بأعلى قدر من الصحة والدقة. وقد لاحظنا أن بعض الباحثين يعيدون حساب صدق وثبات الأدوات المقننة أو المنشورة، وبعضهم لا يقوم بأي إجراء للتحقق من ثبات هذه الأدوات، وكان لا بد للباحث الذي يتبنى مقياسا مقننا أن يقوم بإعادة حساب ثبات درجاته فقط على عينة مماثلة لعينة بحثه؛ لأن ثبات درجات المقياس مرتبط بعينة البحث في النظرية الكلاسيكية للقياس. كما أن استخدام مقاييس غير مقننة يضعف فرصة الاستفادة من نتائج البحث التربوي، والقدرة على تعميمها؛ لأن نتائج البحث تصبح محددة بالأدوات، وكذلك لا يمكن مقارنة نتائج الدراسات المختلفة.
وأخيرا فإننا نستهدف من هذه المقالات مناقشة بعض المفاهيم الهامة في القياس النفسي والتربوي، وخصوصا تلك المتعلقة بصدق التكوين الفرضي وثبات الاتساق الداخلي، وهذان المفهومان كثيرا ما يحدث بينهما خلط وتداخل عند العديد من الباحثين وطلاب الدراسات العليا. كما نستهدف أن تسهم هذه المقالات في تحسين جودة البحوث التربوية العربية وتطويرها من خلال تحسين مستوى ثبات وصدق أدوات القياس المستعملة في هذه البحوث. وأخيرا نرجو أن تساهم هذه المقالات في زيادة وعي الباحثين بالإجراءات الدقيقة لحساب ثبات وصدق أدوات القياس، والتي يترتب عليها الثقة في نتائج البحوث.
المراجع
- باهي، مصطفى حسين إبراهيم. (2011) بعض القضايا الهامة للتحليل الإحصائي في البحوث النفسية والتربوية. المؤتمر العلمي السنوي العربي السادس - الدولي الثالث - تطوير برامج التعليم العالي النوعي في مصر والوطن العربي في ضوء متطلبات عصر المعرفة: جامعة المنصورة - كلية التربية النوعية.
- أبو دنيا، نادية عبده (2018) القياس والتقويم النفسي والتربوي في العملية التعليمية، الدمام: مكتبة المتنبي.
- علام، صلاح الدين محمود. (2011) القياس والتقويم التربوي والنفسي، أساسياته وتطبيقاته وتوجيهاته المعاصرة، ط5، القاهرة: دار الفكر العربي.
- ميخائيل، أمطانيوس نايف. (2015) القياس والتقويم التربوي للأسوياء وذوي الاحتياجات الخاصة، ط1، عمان: دار الإعصار العلمي للنشر والتوزيع.
- عفانة، عزو إسماعيل سالم. (2011) أخطاء شائعة في تصاميم البحوث التربوية لدى طلبة الدراسات العليا في الجامعات الفلسطينية. أعمال مؤتمر البحث العلمي: مفاهيمه، أخلاقياته، توظيفه: الجامعة الإسلامية بغزة.
- ملحم، سامي محمد. (2015) القياس والتقويم في التربية وعلم النفس، ط7، عمان: دار المسيرة.
- الضوي، محسوب عبد القادر. (2015) استخدام الأساليب الكمية في التحقق من صدق محتوى الاختبار النفسي، مجلة كلية التربية، جامعة الإسكندرية.
للاطلاع على المقال الثالث أضغط هنا