أخطاء الباحثين في إجراءات التحقق من صدق الأدوات المستخدمة في البحوث التربوية العربية
المقال الثالث
نظرا لأهمية البحوث التربوية وحرصا منا على مساعدة الباحثين للوصول إلى أدق النتائج في أبحاثهم التربوية، بدأنا في تقديم سلسلة من المقالات المتعلقة بإجراءات التحقق من ثبات وصدق أدوات القياس المستخدمة في البحوث التربوية العربية، وقد تناولنا في المقالين السابقين الخطأ الذي يقع فيه العديد من الباحثين حين يخلطون بين مفهومين متمايزين وهما: مفهوم ثبات أدوات القياس ومفهوم صدق أدوات القياس، بالإضافة إلى توضيح مفهومي ثبات أدوات القياس وصدق أدوات القياس، وسنسعى في هذا المقال إلى بيان الأساليب المستخدمة في الكشف عن صدق البناء في الأبحاث التربوية. لذا تقدم شركة "دراسة لخدمات البحث العلمي والترجمة" هذه المقالات هدية إلى الباحثين العرب في العلوم التربوية آملين أن نسهم في تطوير الباحثين العرب وتعزيز قدراتهم بهدف الارتقاء بمستوى البحث التربوي في الوطن العربي، وبالتالي المساهمة في تطوير القرارات المتعلقة بالعملية التعليمية والتربوية.
الأساليب و المؤشرات الإحصائية المستخدمة في الكشف عن صدق البناء
ثمت العديد من الأساليب أو المؤشرات الإحصائية والمنطقية الممكن استخدامها في الكشف عن صدق البناء، ومن الممكن استخدام أكثر من مؤشر للمقياس الواحد؛ وذلك نظرا لتعدد الفرضيات التي يفرزها الإطار النظري، ومنها بالإضافة للتحليل العاملي، مؤشرات الثبات، سواء ثبات الاتساق الداخلي باستخدام التجزئة النصفية وحساب معامل ألفا أو كيودر – ريتشاردسون، أو ثبات الإعادة للكشف عن ثبات السمة وعلاقته بثبات المقياس، حيث تعرف السمة السيكولوجية بأنها طائفة من السلوكيات التي تميل إلى الحدوث في وقت واحد، وبالتالي فإن قوة الارتباط بين الفقرات المعدة لقياس السمة تعتبر مؤشرا أوليا لصدق البناء، وكذلك عندما يكون هناك افتراض بتغير السمة المقاسة مع مرور الزمن، فإن معامل ثبات التجزئة النصفية ومعامل ثبات الإعادة يستخدمان معا كدليل على صدق البناء، فإذا كان معامل ثبات التجزئة النصفية مرتفعة، وكان معامل ثبات الإعادة منخفضة، فإن ذلك يعني بدرجة مقبولة من الثقة أن المقياس صادق في قياس هذه السمة (عبيدات، 2010).
ومن ثم فإن الاتساق الداخلي يعد مؤشرا ضروريا، لكنه ليس كاف لصدق البناء؛ لأنه يعكس مدى خلو المقياس من أخطاء المعاينة، فإذا افترضنا سمة أحادية البعد، فهناك عدد كبير وغير محدود من المؤشرات السلوكية التي تدل على هذه السمة، و الفقرات الموجودة في المقياس تمثل عينة منها، وعندما نثبت أن هناك تجانسا بين هذه الفقرات، فهذا يدل على أننا لم ندرج في المقياس مؤشرات تعبر عن سمة أخرى، غير أن ذلك لا يثبت بأي شكل أن عينة الفقرات كافية، فقد تكون الفقرات متجانسة، ولكن هناك العديد من المؤشرات الأساسية الدالة على السمة خارج المقياس، لذا فالاتساق الداخلي يظل مؤشرا أوليا يحتاج لمزيد من الأدلة لإثبات صدق البناء عندما يكون هناك افتراض بأن السمة المستهدفة بالقياس سمة أحادية البعد.
أحادية البعد في القياس النفسي
تعتبر أحادية البعد صفة مرغوبة في القياس النفسي؛ نظرا لصعوبة تفسير الدرجة الكلية على المقاييس متعددة الأبعاد، لذلك يتم تحليل السمة متعددة الأبعاد إلى أبعاد أحادية؛ ليكون هناك معنى للدرجة على كل بعد، فالقياس النفسي الجيد هو الذي يسمح بتقدير قدرة واحدة للممتحن في كل مرة، ولا يسمح بإسهام مقدرتين في درجة قياس واحدة، ففي المسائل اللفظية في الرياضيات يجب أن يبحث معد الفقرات عن طرق بديلة لتقديم الفقرات، بحيث لا يستمر الأفراد مرتفعو القدرة اللفظية متميزين في الحل. ومن الضروري أن يهدف الاختبار إلى قياس قدرة واحدة عند استعمال الدرجة الكلية وحدها باعتبارها محكا للتقييم، والجدير بالذكر أنه من الصعب تحقق افتراض أحادية البعد عمليا بشكل تام؛ نظرا لتعدد العوامل المعرفية والعوامل الشخصية، وتداخلها مع تلك العوامل المتعلقة بإجراءات تطبيق الاختبار، التي دائما ما تؤثر على الأداء في الاختبار، أو في بعض نطاقاته وتلك العوامل تكون غير معروفة، ويصعب التحكم فيها، لذلك فمن الأفضل اعتبار أحادية البعد متغيرة متصلا وعدم اعتبارها متغيرة ثنائية، إما أن يتحقق أو لا (88 :1995 , Blais & Laurier ).
الاتساق الداخلي كمؤشر على صدق البناء
ومن الجدير بالذكر أننا عندما نستخدم الاتساق الداخلي كمؤشر أولي على صدق البناء، يجب أن نستخدم معامل ألفا أو معامل كيودر - ريتشاردسون كإحصاء معبرة عن متوسط معاملات الارتباط بين درجات جميع الفقرات، حيث يعد الصدق صفة لنتائج المقياس ككل، في حين أن الاعتماد على الارتباط بين درجة الفقرة ودرجة البعد يقدم معلومات خاصة بالفقرة، وهو معامل تمييز الفقرة، بالإضافة إلى أنه هو الإجراء السائد في البحوث التربوية العربية، حيث إن معامل تمييز الفقرة هو معامل الارتباط بين درجة الفقرة والدرجة الكلية على المقياس بعد تحرير الدرجة الكلية من درجة الفقرة (عبيدات، 2010، علام، 2011)، ويستخدم معامل تمييز الفقرة كمؤشر لصدقها، ومن ثم يتم استبعاد الفقرات منخفضة التمييز.
تصنيف طرق التحقق من صدق المقياس
يلاحظ مما سبق أن هناك تداخلا بين إجراءات طرق التحقق من صدق البناء والطرق الأخرى من الصدق، لذا فقد قدمت معايير القياس النفسي - التي أعدتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس ورابطة البحث التربوي الأمريكية و المجلس الوطني للقياس في التربية - تصنيفا لطرق التحقق من صدق المقياس يعالج هذا التداخل، فأشارت إلى أن هناك خمسة أنواع من الأدلة تدعم جوانب الصدق المختلفة، وهي كالتالي:
1.الأدلة التي تقوم على المحتوى، والمعتمدة على التحليلات المنطقية، وتقويم الخبراء المحتوى المقياس، الذي يتضمن: الفقرات، والمهام، والصياغة، والإخراج، والحكم على كفاية الفقرات، ووضوحها، والعلاقة بينها وبين السمة المستهدفة بالقياس، كما يمكن أن تتضمن مراجعة الخبراء فحص التحيز للنوع أو الثقافة أو العمر.
2. الأدلة التي تقوم على عمليات الاستجابة، وتعني تحديد مدى تلاؤم طريقة الاستجابات المطلوبة من المفحوصين مع السمة المستهدفة بالقياس، وتتضمن ملاحظة المفحوصين أثناء الأداء على المقياس، وإجراء مقابلات معهم لتحديد أسباب إعطاء إجابات محددة للأسئلة، وكذلك فحص الطرق التي يستخدمها المحكمون أو المصححون لإعطاء الدرجات في ضوء المحكات المحددة للتقدير أو التصحيح، من أجل التأكد من أنهم يستخدمون المحك كما هو مخطط له، وأن تقديراتهم لا تتأثر بأي عوامل خارجية ليس لها علاقة بالسمة المستهدفة بالقياس.
3.الأدلة المعتمدة على البنية الداخلية للمقياس، وهنا يكون الهدف اختبار مدى اتفاق المكونات الداخلية للمقياس مع السمة المعرفة نظرية، ويتم ذلك باستخدام التحليل العاملي التوكيدي ودالة الأداء التفاضلي للفقرة ( DIF )؛ Differential item function وذلك لتحديد الفقرات المتحيزة، أي الفقرات التي يتباين احتمال نجاح الأفراد من نفس مستوى القدرة في الإجابة عليها لأنهم ينتمون إلى مجموعات مختلفة، وهناك العديد من طرق حساب دالة الأداء التفاضلي للفقرة، بعضها يعتمد على النظرية الكلاسيكية في القياس، وبعضها يعتمد على نظرية الاستجابة للفقرة.
4.الأدلة التي تقوم على العلاقات مع متغيرات أخرى، وتشمل الصدق المرتبط بمحك، بنوعيه التنبؤي والتلازمي، وكذلك الصدق التقاربي، والصدق التمييزي.
5.الدليل الذي يقوم على نتائج الاختبار، ويتعلق بالنتائج الإيجابية والسلبية المتوقعة لاستخدام المقياس، فهو يعكس مدى فائدة المقياس.
وقد حاولنا في هذا المقال وسابقيه مناقشة بعض المفاهيم الهامة في القياس النفسي والتربوي، وخصوصا تلك المفاهيم المتعلقة بصدق التكوين الفرضي وثبات الاتساق الداخلي، بالإضافة إلى توضيح مفهومي ثبات أدوات القياس وصدق أدوات القياس، وكذلك بيان الأساليب المستخدمة في الكشف عن صدق البناء في الأبحاث التربوية. وسنسعى في المقال القادم إلى بيان الطرق المستخدمة في البحوث التربوية للتحقق من صدق أدوات القياس، وكذلك المستخدمة للتحقق من ثبات أدوات القياس، بالإضافة إلى نسبة البحوث التي تعتمد على أدوات قياس مقننة. ونرجو أن تسهم هذه المقالات في تحسين جودة البحوث التربوية العربية وتطويرها من خلال تحسين مستوى ثبات وصدق أدوات القياس المستعملة في هذه البحوث. وأخيرا نرجو أن تساهم هذه المقالات في زيادة وعي الباحثين بالإجراءات الدقيقة لحساب ثبات وصدق أدوات القياس، والتي يترتب عليها الثقة في نتائج البحوث.
المراجع
- باهي، مصطفى حسين إبراهيم. (2011) بعض القضايا الهامة للتحليل الإحصائي في البحوث النفسية والتربوية. المؤتمر العلمي السنوي العربي السادس - الدولي الثالث - تطوير برامج التعليم العالي النوعي في مصر والوطن العربي في ضوء متطلبات عصر المعرفة: جامعة المنصورة - كلية التربية النوعية.
- أبو دنيا، نادية عبده (2018) القياس والتقويم النفسي والتربوي في العملية التعليمية، الدمام: مكتبة المتنبي.
- علام، صلاح الدين محمود. (2011) القياس والتقويم التربوي والنفسي، أساسياته وتطبيقاته وتوجيهاته المعاصرة، ط5، القاهرة: دار الفكر العربي.
- ميخائيل، أمطانيوس نايف. (2015) القياس والتقويم التربوي للأسوياء وذوي الاحتياجات الخاصة، ط1، عمان: دار الإعصار العلمي للنشر والتوزيع.
- عفانة، عزو إسماعيل سالم. (2011) أخطاء شائعة في تصاميم البحوث التربوية لدى طلبة الدراسات العليا في الجامعات الفلسطينية. أعمال مؤتمر البحث العلمي: مفاهيمه، أخلاقياته، توظيفه: الجامعة الإسلامية بغزة.
- ملحم، سامي محمد. (2015) القياس والتقويم في التربية وعلم النفس، ط7، عمان: دار المسيرة.
- الضوي، محسوب عبد القادر. (2015) استخدام الأساليب الكمية في التحقق من صدق محتوى الاختبار النفسي، مجلة كلية التربية، جامعة الإسكندرية.
للاطلاع على المقال الثاني أضغط هنا