المنهج الاستقرائي في البحوث العلمية
تؤمن شركة "دراسة لخدمات البحث العلمي و الترجمة" بأن البحث العلمي هو السبيل الأمثل لنهضة الأمم، لذا تقوم الشركة بتقديم هذه المقالات التأسيسية المتعلقة بمناهج البحث العلمي وتحديدا المنهج الاستقرائي حرصا منا على الارتقاء بالأمة العربية وتطوير البحث العلمي في الوطن العربي، والارتقاء بمستوى الباحثين الشباب في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية وكذلك العلوم اللغوية والشرعية، ونسعى في هذا المقال إلى تقديم رؤية تأسيسية للمنهج الاستقرائي. ونحاول أن نبين في هذا المقال مفهوم "المنهج الاستقرائي" ونتناول التطور التاريخي للمنهج الاستقرائي، وطبيعة المنهج الاستقرائي والعلوم التي يمكن أن يستخدم فيها المنهج الاستقرائي، وما هي أهم أنواع المنهج الاستقرائي، ثم نشرع في الكلام على خطوات المنهج الاستقرائي في البحث العلمي، وأخيرا يأتي الكلام على مميزات المنهج الاستقرائي وعيوبه.
نظرة تاريخية على المنهج الاستقرائي
يعد المنهج الاستقرائي من أقدم المناهج تأصيلا بعد المنهج القياسي، ويمكن اعتبار الفيلسوف اليوناني أرسطو هو أول من أصل لاستخدام المنهج الاستقرائي، ومن المعروف أن أرسطو هو واضع علم المنطق والذي ما زال يدرس في الجامعات إلى يومنا هذا، وقد استفاد الفلاسفة اليونان وغيرهم من المنهج الاستقرائي وطوروه، لكن اهتمام الحضارة اليونانية كان متوجها بالأساس إلى المنطق الاستنباطي الاستدلالي أو المنهج القياسي وهو المنهج الذي استخدموه واعتمدوا عليه أساسا للوصول إلى النتائج، التي بلغت مبلغا عظيما في كل العلوم، خاصة العلوم العقلية التي تعنى بالتأصيل للعلوم والتي توسم في العصر الحالي بفلسفة العلم، وكان من ضمن هذه المناهج المؤصلة للعلوم المنهج الاستقرائي، فكانت التجربة واحدة من الركائز التي اعتمدت عليها الحضارة الإسلامية، وقد عني العلماء المسلمون عناية كبيرة بالمنهج الاستقرائي، ومن أهم أولئك العلماء: الحسن بن الهيثم الذي يعد أهم علماء الرياضيات والطبيعة في العصور الوسطى، فتراه يبيّن منهجه الاستقرائي أثناء بحثه لكيفية حدوث عملية الإبصار، فيقول:
نبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين. (النشار، 1984 ص245)[B1]
فنرى في هذا المنهج كيف مزج الحسن بن الهيثم بين المنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي، لكنه بالرغم من هذا المزج إلا أنه قدم التجربة على القياس، وقل مثل هذا عن جابر بن حيان وأبي الريحان البيروني والزهراوي وابن زهر وأبي بكر الرازي وغيرهم، ولو شئنا نقلنا لك النقول، لكننا نعرض عن ذلك خشية الإطالة، وفيما نقلنا كفاية إن شاء الله. حتى دالت دولة المسلمين وانتهت النوبة إلى الأوروبيين،[B2] فكان المنهج الاستقرائي أساس النهضة الأوروبية ومبدعها، والوقود الذي دفع العالم للسير نحو الحداثة. وقد بدأت المناهج تتمايز منذ عصر النهضة الأوروبية، في القرنين السادس والسابع عشر، وفصّل الفلاسفة الكلام على المناهج، بدءا من راموس ورينيه ديكارت وفرانسيس بيكون وكلود برنارد وجون ستيورات مل وغيرهم. (النشار، 1984)
مفهوم المنهج الاستقرائي
قبل تناول المنهج الاستقرائي ومفهومه من الضروري التعريف بمفهوم "المنهج" والمقصود به، وكذلك مصطلح "الاستقراء"، ونقول: المنهج في اللغة هو النهج والمنهاج وهو: الطريقُ الواضِحُ المستقيم، أما في الاصطلاح، فالمنهج: هو عبارة عن مجموعة من القواعد العامة المصاغة والمتبعة من أجل الوصول إلى الحقيقة في العلم. ويعرف المناطقة المنهجَ بأنه: فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن المعرفة والوصول إلى الحقيقة، أو من أجل البرهنة عليها. وقد بدأ استعمال مصطلح "المنهج" بهذا المعنى تزامن مع عصر النهضة الأوروبية في القرنين السادس والسابع عشر. أما الاستقراء فهو: مصدر من الفعل "استقرأ"، بمعنى: تتبع، وتقصى بغرض الوصول إلى نتائج، ويمكن تعريف "الاستقراء" بأنه: تتبع الجزئيات للوصول إِلى نتيجة كُلِّيَّة، ويمكننا القول بأنه: الاستدلال العقليّ والانتقال به من الخصوص إلى العموم. (المحمودي، 2019)
ويعتبر المنهج الاستقرائي هو المنهج المتبع في العلوم الطبيعية، ويقوم على الملاحظة والتجربة والتحكم بالعوامل والمتغيرات للوصول إلى الاستنتاجات النهائية، فيكون بهذا عكس المنهج الاستنباطي إذ يبدأ من المسائل الجزئية لاستخراج القوانين العامة الكلية منها. ويقوم المنهج الاستقرائي على الوصف والتعريف والتصنيف، ثم البحث عن الروابط والعلائق بين الظواهر المتشابهة، ثم وضع الفرضيات التي يمكن من خلالها تفسير هذه الروابط، وأخيرا إجراء التجارب امتحانا لصحة هذه الفرضيات. (الأشوح، 2004)
طبيعة العلوم التي تخضع للمنهج الاستقرائي وقيوده
يستخدم المنهج الاستقرائي أساسا في البحوث العلمية في العلوم الطبيعية، كالطب والفلك والكيمياء والفيزياء والأحياء، كما أنه كثيرا ما يستخدم في التجارب المتعلقة بعلم النفس وعلم النفس الإكلينيكي ودراسة الظواهر الاجتماعية في علم الاجتماع؛ فإن كل هذه العلوم لا بد أن تخضع للملاحظة والتجربة، لاستنتاج القوانين وتعميمها، إلا أن الدراسات العلمية في هذه العلوم لا تخضع فقط للمنهج الاستقرائي، فكثير من هذه العلوم يتم المزج فيها بين أكثر من منهج للوصول إلى النتائج الصحيحة. وتعتبر أهم القيود المقيدة للمنهج الاستقرائي هي عدم إمكانية تعميم النتائج التي تم التوصل إليها بشكل مطلق، وخاصة في الدراسات البحثية التي تتعلق بالعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع، لكن عموما كلما كان مجتمع الدراسة أكبر، كلما كانت نتائج البحث أكثر مصداقية وموثوقية. (حافظ، 2012)
أنواع المنهج الاستقرائي
ثمت نوعان رئيسيان من أنواع المنهج الاستقرائي، وهما:
1. منهج الاستقراء التام: وفيه يقوم الباحث بالدراسة الشاملة لكل الجزئيات، فيخرج الباحث بنتائج يقينية أكيدة يمكن تعميمها بشكل مطلق. ومثال ذلك أن يكون ثمت مجتمع دراسي مكون من 100 عينة ويقوم الباحث بدراسة كل عينة من المائة عينة المكونة للمجتمع الدراسي. (حافظ، 2012) [B3]
2. منهج الاستقراء الناقص: وفيه يقوم الباحث بالدراسة غير الكاملة لبعض الجزئيات، فيخرج الباحث بنتائج شبه يقينية لكنها غير أكيدة وبالتالي لا يمكن تعميمها بشكل مطلق. ومثال ذلك أن يكون ثمت مجتمع دراسي مكون من مائة عينة [B4] ويقوم الباحث بدراسة خمسين عينة من المائة عينة المكونة للمجتمع الدراسي.
(الأشوح، 2004)
خطوات المنهج الاستقرائي في البحث العلمي
أولا: تحديد المشكلة البحثية:
كغيره من مناهج البحث العلمي يبدأ المنهج الاستقرائي بتحديد المشكلة البحثية، إذ لا يعقل وجود بحث علمي، فضلا عن وجود منهج للبحث، من غير وجود مشكلة بحثية تكون نقطة البداية لإثارة السؤال واتباع المنهج للبحث عن إجابة هذا السؤال. (حافظ، 2012)
ثانيا: الملاحظة وتجميع المعلومات
تعتبر الملاحظة هي الخطوة التأسيسية الأولى والأهم في عملية الاستقراء ويمكننا تعريف الملاحظة بأنها: استخدام الحواس الضرورية كالسمع والبصر واللمس في دراسة ظاهرة معينة والتعرف عليها، والربط بين العوامل المختلفة، بغرض البحث عن تفسير لسبب حدوث هذه الظاهرة وارتباط عواملها، لكن الملاحظة العلمية الدقيقة ينبغي أن تراعى فيها عدة شروط:
1. أن تتكرر هذه الظاهرة بشكل مستمر، حتى يتمكن الباحث من رصدها وملاحظتها ودراستها بشكل شامل ودقيق.
2. ألا يترتب على الباحث أية مخاطر أثناء ملاحظته لهذه الظاهرة، وإلا فإن من الممكن الاستعاضة عن ملاحظة الباحث باستخدام الآلات والروبوتات والماكينات المصممة للرصد والملاحظة والتصوير.
3. أن يقوم الباحث بدراسة كل جزئيات هذه الظاهرة من غير إغفال لأي جانب من جوانب الرؤية.
4. الملاحظة الموضوعية، ونعني بذلك الرصد الحيادي المتجنب للأهواء والتحيزات المسبقة. (الأشوح، 2004)
ثالثا: وضع الفرضيات المفسرة
وفي هذه المرحلة يسعى الباحث إلى افتراض الفرضيات ووضع النظريات التي من الممكن أن تقدم تفسيرا للعلائق التي تربط بين عوامل الظاهرة، ولا يعتبر الفرض تفسيرا يقينيا لحدوث الظاهرة، لكنه يعتبر تخمينا لحل المشكلة؛ لذا فإنه قد يصيب وقد يخطئ، والفيصل هو اختبار هذه الفرضيات بعد التحكم في العوامل والمتغيرات، ولا بد من توافر شرطين أساسيين في الفروض:
1. أن تكون هذه الفرضيات واقعية ولا تتنافى مع البديهيات والمسلمات الضرورية في ذلك الفرع من فروع العلم.
2. أن تكون هذه الفرضيات يمكن أن تخضع للاختبار والتجربة والقياس للتحقق من صحتها. (المحمودي، 2019)
رابعا: اختبار الفرضيات
وتعتبر هذه الخطوة من أهم خطوات المنهج الاستقرائي؛ فإن الفرض إن لم يقدم حلا أكيدا ويقينيا لمشكلة البحث فهو كالعدم، ويتم اختبار الفرضيات من خلال التجارب العملية والاختبارات المعملية، وبديهي أن هذه التجارب تختلف باختلاف فروع العلم. وإخضاع الفرضيات للاختبار يحتمل أحد الاحتمالين، إما فشل هذه الفرضية وثبوت عدم تقديمها لأي حل لهذه الظاهرة، أو نجاح الفرض وتقديمه تفسيرا للظاهرة. (الأشوح، 2004)
خامسا: الاستنتاج والتعميم
وهذه هي الخطوة الأخيرة من خطوات المنهج الاستقرائي، فإذا نجحت الفرضية في الاختبار، فقد ثبتت صحتها وجدواها في تفسير الظاهرة، ولم يبق إلا استخراج القوانين العامة التي تحكم التجربة وتضمن حدوث نفس النتائج في ظل نفس العوامل والمتغيرات. (حافظ، 2012)
مميزات المنهج الاستقرائي وعيوبه
أولا: مميزات المنهج الاستقرائي
يقدم المنهج الاستقرائي للباحثين العديد من المزايا، والتي من أهمها:
1. إمكانية دراسة الظواهر بأسلوب منهجي دقيق من خلال الملاحظة والتجربة.
2. يوصل الباحث إلى نتائج أقرب إلى اليقين.
3. كونه أكثر بعدا عن التأثر بالأهواء والآراء الخاصة بالباحث، ومع ذلك فإنه لا يخلو عنها.
4. إمكانية تعميم القوانين الكلية المستنبطة من اختبار الفرضيات (حافظ، 2012).
ثانيا: عيـــوب المنهج الاستقرائي
لا يخلو منهج عن وجوب بعض العيوب فيه، والمنهج الاستقرائي شأنه في ذلك شأن كل المناهج ومن أهم هذه العيوب:
1. ضعف القطع بدقة تعميم النتائج الصحيحة في العديد من الحالات.
2. ضعف القدرة على التحقق من النتائج وصحة الفرضيات عند تغير العوامل الحاكمة للتجربة. (بدر، 2002)
وختاما نرجو أن يمثل هذا المقال استفادة حقيقية للباحثين ويكون سببا في تطوير مستوى الباحثين الشباب، وأن يكون هذا المقال لبنة في بناء البحث العلمي في الوطن العربي، وأن يساهم في ازدهار العلم وفلسفته.
المراجع
حافظ، عبد الرشيد بن عبد العزيز. (٢٠١٢) أساسيات البحث العلمي. جدة: مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز.
المحمودي، محمد سرحان علي. (٢٠١٩) مناهج البحث العلمي. صنعاء: دار الكتب.
بدر، أحمد. (٢٠٠٢) أصول البحث العلمي ومناهجه. المكتبة الأكاديمية.
النشار، علي سامي. (1984) مناهج البحث عند مفكري الإسلام. بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر.
الأشوح، زينب. (٢٠١٤) طرق وأساليب البحث العلمي وأهم ركائزه. القاهرة: المجموعة العربية للتدريب والنشر.
زيان، محمد عمر. (١٩٨٣) البحث العلمي مناهجه وتقنياته. جدة: دار الشروق للنشر والتوزيع.
الدعيلج، إبراهيم عبد العزيز. (٢٠١٠) مناهج وطرق البحث العلمي. الأردن: دار صفاء.
عناية، غازي. (٢٠٠٨) منهجية إعداد البحث العلمي بكالوريوس ماجستير دكتوراه. الأردن: دار المناهج.
منتصر، أمين. (٢٠١٠) خطوات وضوابط البحث العلمي. مصر: دار الفكر العربي.
القحطاني، سالم سعيد. (٢٠٠٤) منهج البحث في العلوم السلوكية. الرياض: مكتبة العبيكان.